لا أحب القهوة، ولا أهتم بها، ولا أستلذ مذاقها، والمرة الوحيدة التي احتسيت فيها فنجان قهوة مضطرا كانت «سادة»، وفي مناسبة عزاء كئيبة، ولم تنته الليلة كلها علي خير، حيث انقلبت معدتي رأسا علي عقب حتي صباح اليوم التالي!
وأنا عموما من جيل، تربى على أن شرب القهوة للكبار فقط، وأن الجلوس علي القهوة فقط للعواطلية والمقاطيع، وظلت علاقتي بالقهوة سيئة علي الدوام من سوء ما كنت أشاهده من عصبية مدمني القهوة أثناء صيام رمضان، وحمدت الله كثيرا على أن عافاني من هذه الهواية والغواية!
معلوماتي أن بن القهوة الذي ينمو في 70 دولة هو ثاني أكبر السلع تداولا في العالم بعد البترول الخام، وأنه من السلع الرئيسية التي تستوردها مصر من الخارج بمليارات الدولارات سنويا.
هواة القهوة يقولون إنه متعة الحياة التي لا تضاهيها متعة، والأطباء يؤكدون أن مادة الكافايين المنبهة بها مطلوبة لجسم الإنسان، ولكن بجرعة محددة قد تقتصر علي فنجان واحد صغير يوميا، ففي هذه الحالة حدث ولا حرج عن فوائد القهوة الصحية، وقدرتها علي الوقاية من أمراض عديدة قاتلة، ولكن زيادة الجرعة عن فنجان صغير يوميا تسبب أضرارا بالجملة، أقلها الإدمان!
والقهوة من مشروبات العرب «المدللة»، فقد كتبوا فيها أشعارا، وغنت لها أسمهان أهوي، وكتب لها نزار قباني قارئة الفنجان، وغنت لها اللبنانية سميرة توفيق «صبوا القهوة وزيدوها هيل»، والهيل هو أحد أبرز المكونات التي يضيفها العرب إلي قهوتهم لإعطائها نكهة ومذاقا خاصا ومميزا، قبل تقديمها في مجالسهم للضيوف والمجتمعين في إبريق كبير اسمه «الدلة»، وهو بالمناسبة الرمز المرسوم علي الدرهم الإماراتي.
ومع كل هذا، لم أكن أعرف أن القهوة يمكن أن تصبح يوما ما سببا في معركة شبابية كبيرة علي مواقع التواصل الاجتماعي، اختلط فيها الحابل بالنابل، وانقسم فيها المصريون، ولا الأهلي والزمالك، بين مؤيد لشاب «عزم» فتاة لا يعرفها متوقفة في الشارع على قهوة في كافيه، وبين متعاطف مع الفتاة التي قامت بتصوير الشاب وفضحه وهو ينتهك خصوصيتها ويدعوها لشرب القهوة.
المتعاطفون مع الفتاة قالوا إن «البنت» كانت تنتظر عربية الشغل، وأن الشاب انتهك خصوصيتها، وتحرش بها، ولم يكن من حقه الحديث معها وهو لا يعرفها، ولا أن يدعوها لقهوة أو حتى شاي بلبن، خاصة وأنه من الواضح أن هذه لم تكن المرة الأولي التي يقدم فيها على هذه الفعلة.
والمتعاطفون مع الشاب رأوا أن «الجدع» معجب بالبنت ربما، وأنه لم يخطيء، ولم يتجاوز بلفظ خارج، أو إشارة غير لائقة، وأن دعوته لها ليس فيها ما يشين في زمن بلا أخلاق، فكل ما في الأمر من وجهة نظرهم فنجان قهوة في كافيه ملحق بمحطة بنزين يرتادها الآلاف يوميا!
ولكن مؤيدي الفتاة التي نشرت الواقعة صوتا وصورة على أمة لا إله إلا الله، قالوا إنها أحسنت أنها فضحته، وأن هذه هي عقوبة أي شاب يحاول مضايقة أي فتاة في الشارع أو في مكان عام، وأن المعاكسة معاكسة، لا فارق بين دعوة على قهوة، ودعوة على فسحة، ودعوة على سهرة، بينما مؤيدو الشاب قالوا إن ملابس الفتاة كانت غير مناسبة، وتوحي بأنها من الفتيات اللواتي يمكن أن يقبلن الحديث مع شاب، واعتبروا أنها صورته لأنها غاوية شهرة، والحق يقال إنهم اتهموها بما هو أكثر من ذلك، وهو ما ردت عليه الفتاة بحزن وغضب في فيديو لاحق، لتذكرهم بأنها «الضحية» في هذه القضية كلها، والتي تعرف الآن باسم واقعة التجمع، أو حادثة القهوة!
الولد بيقول لم أخطيء، والبنت بتقول كنت رايحة شغلي، وطبعا المصريون يموتون في الهيصة واللت والعجن ودي قالت ودي عادت، وفي النهاية، البنت اتفضحت، والواد اتفضح، والاثنان بالمناسبة ليسا في سن مراهقة، وأرجوكم لا تسألوني أين الأهل؟ وأين المدرسة؟ وأين المسجد والكنيسة؟! فنحن الآن أمام واقع جديد، وجيل جديد، وزمن جديد، فقط، اطلبوا من الله الستر والعفو والعافية، واقرأوا معي ما هو منسوب للراحل فكري أباظة : «إن الشاب الصفيق من هؤلاء يتعمد الوقوف على رصيف محطة الترام بالقرب من المكان المخصص لركوب السيدات، وعندما يجد سيدة تقف بمفردها يقترب منها بمنتهي البجاحة ويقول لها دون سابق معرفة : بونسوار يا هانم»!
.. وبعد ذلك، فلنقرأ جميعا الفاتحة، ولنشرب معا جردلا من القهوة، للنسيان!
لمزيد من مقالات ◀ هانى عسل رابط دائم: