رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تأملات فى تاريخ أوليسيس جرانت؟!

لدارس السياسة، فإن مصر تطل دوما من كتب التاريخ، فهو ليس مؤرخا يبحث عن الحقيقة فيما جرى وكان، وإنما يبحث فيما يفيد حلا لمعضلات الحاضر، وفى حالتنا هو ما يحدث بعد فترة عسيرة انتابتها، شئ من هذا جرى فى الولايات المتحدة الأمريكية بعد تسعة عقود من ثورتها الأولى ضد الاحتلال البريطاني؛ وثمانية منذ قيام الولايات المتحدة الأمريكية، عندما جرت الحرب الأهلية الأمريكية (1960ـ 1965) وبعد أيام من نهايتها بعد هزيمة «الكونفيدرالية» أو الجنوب جرى اغتيال إبراهام لينكولن الرئيس الذى خاض الحرب من أجل الحفاظ على الاتحاد أولا، وتحرير العبيد ثانيا.

وطبقا للدستور الأمريكي، تولى نائب الرئيس أندرو جونسون الرئاسة حتى نهاية الفترة الثانية للرئيس التى كان قد حصل عليها فى الانتخابات قبل نهاية الحرب بفترة قصيرة. هنا دخلت الولايات المتحدة مرحلة إعادة البناء التى كانت تعنى أولا عودة الولايات التى انفصلت إلى الاتحاد مرة أخري؛ وثانيا إجراء مجموعة من التعديلات الدستورية التى تحرر العبيد، وتعطيهم حقوق المواطنة، بما فيها حق التصويت؛ وثالثها إعادة بناء الاقتصاد الأمريكى والمناطق التى دمرتها الحرب، ولكن لم تكن مرحلة إعادة البناء أقل قسوة فى اختبار الولايات المتحدة فى ممارسة الوحدة، بقدر ما كانت الحرب الأهلية بشعة فى ممارسة الانقسام.

ران شيرناو فى مجلده جرانت بقدر ما كتب عن الرئيس الأمريكى الثامن عشر عندما كان الجنرال الذى قاد جيوش الشمال للانتصار فى الحرب الأهلية، وعندما صار رئيس الدولة لفترتين متتاليتين (1869ـ 1877)؛ فإنه كان يكتب عن المعضلات الكبرى التى واجهت الأمة الأمريكية. فما حدث فى الواقع أن الحرب الأهلية لم تنته مع نهاية الحرب وانتصار الشمال، حيث استمر العنف والإرهاب من قبل جماعات من البيض كان أكثرها شهرة وعنفا وإرهابا جماعة الكوكلوكس كلان التى راحت تمارس القتل والحرق لآلاف من المواطنين السود وكنائسهم وتجمعاتهم. ولم يكن انتهاء العبودية حقيقيا، لأن الولايات الجنوبية راحت تحرمهم عمليا من الحقوق التى حصلوا عليها الواحد بعد الآخر. ولم يعد ممكنا أن تجرى انتخابات جادة يدلى فيها السود بأصواتهم بينما يمنعون من هذا الحق عن طريق القيود التى وضعتها الولايات على حق التصويت بالملكية أو التعليم أو الانتقال إلى صناديق الانتخاب التى يتعرضون فيها للإيذاء. كان الشمال أيضا مجهدا من الحرب التى استمرت خمس سنوات، ومن الركود الاقتصادى والتضخم الذى استمر أكثر من ذلك، وكانت النخبة السياسية نفسها منقسمة إزاء قضية اللون والعرق ليس فقط فيما يتعلق بالسود وإنما أيضا فيما يتعلق بالمرأة وسكان البلاد الأصليين أو الهنود. وكان الرئيس أندرو جونسون من المعسكر الذى يرى أنه مادامت الولايات الجنوبية عادت إلى الاتحاد، فإن تحرير العبيد لم يعد ملحا، وعلى عكس ما كانت الأوضاع تقتضى لحماية الحقوق السياسية والاقتصادية لجميع الأمريكيين، فإن الرئيس كان يريد للقوات المسلحة أن تنكمش وتنسحب من الولايات التى انفصلت من قبل.

أوليسيس سمبسون جرانت كان من الذين اصطفوا إلى جانب إبراهام لينكولن فى مشروعه لاستكمال تحقيق أهداف الثورة الأمريكية الأولى التى اعترف فيها إعلان الاستقلال بالحقوق المتساوية للبشر، على عكس الدستور الذى اعترف بمؤسسة العبودية. ومن ثم وقف كجندى فى أثناء الحرب، ورئيس فى أثناء السلام، فى صف تجديد الفكر الأمريكى لكى يحافظ على الدولة الأمريكية، ويجعلها الإطار الذى يضم كل الأمريكيين بغض النظر عن اللون أو العرق أو الجنس أو الدين. ولذلك لم يتوان عن استخدام الجيش والقوانين الاستثنائية بما فيها فرض الحالات العرفية، والمحاكم التى تقيد فيها قدرات الدفاع فى تدمير قوى العنف والإرهاب والتمييز العنصرى وبالذات جماعة «الكوكلوكس كلان» التى مثلت طليعة عصبة البيض فى الوقوف فى وجه الدولة سواء تحت علم حقوق الولايات أو تحت بيرق التفوق العنصرى للبيض. وربما كان أهم ما فعله الرئيس جرانت أنه وضع الأمريكيين جميعا فى إطار مشروع مستقبلى يسمح بانطلاق الطاقات الاقتصادية الكامنة لدى الولايات المتحدة. كانت الحرب قد أعطت للحكومة الفيدرالية قدرات كبيرة، كما أن الطاقة الصناعية فى الولايات الشمالية ارتفعت ارتفاعا ملحوظا، وصاحبتها تطورات تكنولوجية كبرى تتعلق بصناعات الحديد والصلب والسفن والتلغراف والبرق لترفع القدرات الاتصالية للدولة. لم يتردد الرجل فى اتخاذ القرارات الصعبة، ومن بينها إرساء الدولار مرة أخرى على قاعدة الذهب التى كانت مرفوعة فى أثناء الحرب، وصاحب كل ذلك سياسة خارجية متسامحة أقامت الجسور مع بريطانيا التى كانت بمنزلة العدو التاريخى للولايات المتحدة.

هل فى كل ذلك ما يذكر بالحال فى مصر؟ بالطبع، فإن التاريخ لا يعيد نفسه، والظروف والشروط المصرية غير تلك الأمريكية، وهناك فارق فى العصر والزمن؛ ولكن أزمة التغيير واحدة، ووجود التحديات متقاربة، حيث حما الله مصر من الحرب الأهلية لأن القوات المسلحة تدخلت فى الوقت المناسب فى 30 يونيو 2013 إلى جانب الشعب، منحها القدرة على مواجهة حكم الإخوان وعنفهم وإرهابهم، والقيادة التى تسعى إلى تجديد الفكر المصرى فى دولة تقوم على المواطنة والإيمان بالقدرات الهائلة للشعب المصرى وقدرته على التقدم مهما يكن الطريق شاقا والقرارات صعبة. ولمن لا يعرف، فإن جرانت بعد خروجه من السلطة فى عام 1877 قام برحلة حول العالم استمرت عامين ونصف العام زار فيها دولا كثيرة، والتقى فيها زعماء وملوكا وأباطرة شتي، وكانت مصر من الدول التى زارها فى 1877، حيث التقى الخديو اسماعيل الذى أعطاه سفينة لكى يبحر فى النيل، مشاهدا المعابد والمراقد القديمة. وكان أبو الهول من أكثر ما بهره حيث قال معلقا إنه يبدو أنه ظل يفكر طيلة الأبدية دون أن يتكلم كثيرا (كان جرانت من المعروفين بقلة الكلام وكثرة الفعل)، وعندما عاد من رحلته فى مصر قال إنها كانت من أسعد ما عرفه فى حياته!.


لمزيد من مقالات ◀ د. عبدالمنعم سعيد

رابط دائم: 
كلمات البحث: