رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

زيارة السيدة العجوز!

الجيل الذى شهد الستينيات من القرن الماضى سوف يتذكر فيلم الزيارة (1964) حيث كان من أفلام فوكس للقرن العشرين التى لا تنسي، وتقاسمت بطولته الحسناء إنجريد بيرجمان والممثل الأسطورى أنتونى كوين، وأخرجه بيرنارد ويكي. القصة قامت على زيارة سيدة بالغة الحسن (كارلا) إلى قرية أوروبية جار عليها الزمان بالفقر والعوز والبطالة حيث عرضت على أهلها صفقة قوامها الاستعداد لتخليص القرية من كل أمراضها فتكون غنية وراضية، مقابل قتل أحد رجالها (سيرجى ميللر) الذى أنكر بنوة ابنها منه. فى بداية الأمر ترددت القرية، فلم تكن تقبل إملاء يخص عدالة القرار فيها، لكن تدريجيا ظهرت علامة القبول وبات ناسها على استعداد لتصحيح خطأ تاريخي، وأكثر من ذلك كان الخروج الكبير لمنع الرجل الذى بات مجرما من الهرب. السيدة بعد أن وصلت التراجيديا إلى القمة، أعلنت عن عفوها عن الرجل، ولكنها فى نفس الوقت أدانت القرية كلها التى سكتت عن الجريمة فى الماضي، وباتت على استعداد لانتهاك العدالة مقابل المال فى الحاضر. قصة الفيلم كانت مأخوذة عن مسرحية فريدريك دورينمات «زيارة السيدة العجوز» (1956) التى كان فيها الخطوط الرئسية فى الفيلم، وعمدت إلى استكشاف الجوانب المظلمة فى الطبيعة الإنسانية التى تجعل الحياة يُشترى فيها كل شيء بالمال.

من الناحية الأدبية فى المسرحية، والفنية فى الفيلم، فإن الزيارة سواء كانت لحسناء أو لسيدة عجوز رسمت حالة تراجيدية عميقة تتصاعد فيها الدراما حول قضايا أخلاقية بالغة العمق والتأثير. وكما هى العادة فى تلك الفترة فإن العمل الفنى والأدبى تجاوز النص المسرحى والسيناريو السينمائى إلى التفسير السياسى الذى أعاد تركيب الأحداث مرة أخرى لكى تجعل الهبوط الأمريكى على أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية ومشروع مارشال لبناء القارة بعد دمار الحرب بمثابة الزيارة التى كشفت الكثير من الذنوب الأوروبية. كانت الحرب قد تركت أوروبا مدمرة فقيرة وعاجزة عن الدفاع عن نفسها، وكاشفة عن العمق النازى والفاشى فى الثقافة الأوروبية، وأتت أمريكا بعنفوانها وشبابها وليبراليتها لكى تواجه كل ما هو قديم وعفن ومذنب وعاص ظهر فى ميادين القتال، ومعسكرات الاعتقال النازية. كشفت الزيارة عن الخطيئة التاريخية لأوروبا وتركتها مكللة بالعار عن ماض كان لابد من كشفه.

بعض من هذا جرى خلال الزيارة الأخيرة التى قام بها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى أوروبا وكان فيها حضور قمة حلف الأطلنطي، ثم زيارته الرسمية لبريطانيا التى قابل فيها الملكة، ثم أخيرا كانت قمة هلسنكى التى التقى فيها بفلاديمر بوتين رئيس روسيا الاتحادية. فى كل محطة من هذه المحطات كانت الزيارة الأمريكية كاشفة لعورات الليبرالية الأوروبية، على الأقل من وجهة النظر الأمريكية. ترامب ظل دوما يرى حالة النفاق البريطانية فى ملكة عجوز تقف حارسة على تقاليد قديمة، وفى رغبة تريزا ماى فى أن تنفذ البريكسيت للخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكنه خروج ناعم يبقى بريطانيا مرتبطة بالاتحاد فى كل الأحوال. ألمانيا كان لديها نفاقها الخاص، فهى ترى فى بوتين الشر الأعظم، ولكنها فى ذات الوقت لا تمانع من التجارة معه، وإعطائه سوقا للغاز توفر مليارات الدولارات للخزانة الروسية؛ وبينما الحال كذلك فإنها تريد الحماية الأمريكية من الشر الروسي. وقبل أن يترك ترامب الحلفاء فى الأطلنطى كان قد ذكر فى حديث صحفى أنه يعتبر أوروبا خصما تجاريا على الأقل، بينما روسيا فى تصريحات تالية باتت طرفا يمكن التعامل معه والوثوق فيه.

عقدة المسرحية أو الفيلم أو الحياة أو السياسة تدور دوما عن الغياب أو الحضور؛ الأول دائما فيه حالة انتظار مترقبة تتأرجح بين الأمل واليأس، وبين الأحلام والكوابيس، وهل تظل الدنيا دوما فى انتظار جودو أو أنه سوف يأتى كالضوء الكاشف لما هو أصيل أو زائف. الأصل فى الموضوع هو المفاجأة، وسواء كان الحضور للسيدة العجوز أو السيدة الحسناء أو دونالد ترامب فإن العقدة ممكنة فى بلاد أخري. فى الحالة الأمريكية الأوروبية فإن الأوضاع ليست بالضرورة متناقضة ساعة الكشف، فكلاهما لا يزال فى حلف الأطلنطي، بقدر ما كانا معا يمثلان الغرب بكل ألوانه الديمقراطية والليبرالية الظاهرة، وما يوجد فى باطنه من فاشية وعنصرية تتبدى بقوة ساعة الخطر. الفارق بيننا وبينهم ـ ربما ـ أن الأدب والفن يمكنه أن يتعدى الظواهر، ويدلف إلى أعماق سحيقة حيث تفصح الأرض عن أسرار كامنة ولها تجلياتها المرعبة.

القصة ذاتها يمكن مشاهدتها لدينا فى عالمنا العربى حيث يوجد فى علاقات الأشقاء ما هو كامن تحت الرماد أو مسكوت عنه فيما يحدث ويجرى ويكون. الزائر هنا ليس بالضرورة غنيا فى شكل سيدة عجوز أو حسناء أو بالضرورة فى سطوة دونالد ترامب، وقد حدث فى حالتنا أنه شاب ظهر فى القاهرة فجأة من بلد شقيق لم يكن أحد يعلم عنه شيئا، ولكنه على أية حال جاء محبا لمصر وللنادى العريق. وبعد عام من الحضور فإن مجمع الأحداث والتغيرات تبدو غير قابلة للتصديق من مجمع التدخل فى انتخابات الأندية إلى الصفقات الرياضية إلى التليفزيونية إلى نخبة كروية وإذاعية تحيط بالزيارة فى أجواء من الاحتفاء والاحتفال، وباتت على استعداد لكى تطلب من جمهورها أن يتخلى عن مبادئه ويحتضن النادى الصاعد والنجم الطالع بمعجزة الزيارة المقدسة. فى الفيلم والمسرحية وأوروبا وأمريكا كان فى الأمر كله مراجعة للتاريخ الذى يجرى تحت الأعين ولا يظن أنه من طبائع الأشياء، وفى كل الأحوال فإن النخبة كانت تفعل ذلك من منطلق الحرص على العلاقات الأوروبية الأمريكية. وفى حالتنا فإنه على من يحرصون على علاقات مصر مع الأشقاء، وهى غالية بقدر ما هى تاريخية فى الماضى والحاضر والمستقبل أيضا، أن يحموها من زيارات جامحة لا تعرف تقديرا ولا حسابا، ويكون فيها الطريق إلى جهنم مفروشا بالنوايا الطيبة!.


لمزيد من مقالات ◀ د. عبدالمنعم سعيد

رابط دائم: