احتفل الشعب المغربي، يوم الاثنين 30 يوليو، الماضي، بالذكرى الـ19 لتولى الملك محمد السادس حكم البلاد. وهى مناسبة لتقديم الحصيلة السياسية السنوية، وتقييم الواقع، ليس فقط بإنجازاته، ولكن أيضا بنواقصه واختلالاته. وهى محطة أيضا للنقد الذاتي، الذى اعتبره الملك محمد السادس فضيلة وظاهرة صحية كلما اقترن القول بالفعل والإصلاح، حيث أصبحت الخطب الملكية فى السنوات الأخيرة تضع الأصبع على الجرح، وترسم مسارات الإصلاح الضرورى أمام الحكومة.
فى خطابه لهذا العام، دعا العاهل المغربى الى الترفع عن الخلافات الظرفية، والعمل على تحسين أداء الإدارة، وضمان السير السليم للمؤسسات، بما يعزز الثقة والطمأنينة داخل المجتمع، وبين كل مكوناته. وتفاعلا مع نبض الشارع المغربى وما يعيشه من احتقان، خصص الخطاب الملكى محورا للشأن الاجتماعي، حيث ذكر جلالته أن ما أنجزه المغرب وما تحقق للمغاربة، على مدى عقدين من الزمن يبعث على الارتياح والاعتزاز، إلا أنه فى نفس الوقت، هناك إحساس أن شيئا ما ينقص فى المجال الاجتماعي. مؤكدا مواصلة العمل فى هذا المجال بكل التزام وحزم، حتى نتمكن جميعا من تحديد نقط الضعف ومعالجتها.
مرة أخري، يضع العاهل المغربى اليد على الداء. صحيح قام المغرب بخطوات مهمة فى العقدين الاخيرين، خاصة فى مجال محاربة الهشاشة والتهميش، وفك العزلة عن العالم القروي، وإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتبنى العديد من البرامج الاجتماعية، منها راميد وتيسير، وأطلق العديد من البرامج التنموية؛ لكن تبقى هذه المبادرات والبرامج غير كافية، بحيث لم تظهر نتائجها على حياة المواطن اليومية، بالمستوى المطلوب، لعدة أسباب منها: ضعف العمل المشترك، وبيروقراطية الإدارة، والريع بجميع أشكاله، والفساد المستشري، والذى قال عنه رئيس الحكومة المغربية، إنه يكبد المغرب خسائر سنوية ما بين 5 و7 فى المائة من الناتج الداخلى الخام. إن ما عاشته منطقة الريف من احتجاجات منذ اكتوبر 2016، وما تلاها من احتقان مع فشل النموذج التنموى للمنطقة. وما مرت به منطقة زاكوة من ثورة عطش. وما عرفته مدينة جرادة من حراك أعاد النقاش حول نجاعة الحلول الاقتصادية البديلة. وما أبانت عنه حملة المقاطعة لبعض المنتجات الاستهلاكية، احتجاجا على غلاء الأسعار وضرب القدرة الشرائية للمواطنين... كلها معطيات تدق ناقوس الخطر لما وصل إليه الوضع الاجتماعى فى المغرب.
لا شك أن الفوارق الاجتماعية باتت تتعمق أكثر وأكثر، خاصة بعدما بدأت الطبقة المتوسطة تتآكل وتنحدر نحو خانة الفقر. ولا ضير من الاعتراف بأن التهميش والبطالة والتفقير الممارس على المواطن ليس الا نتيجة مباشرة لفشل النظام التنموى الذى لم يعد قادرا على الاستجابة للمطالب والحاجات المتزايدة للمواطنين، ولا على الحد من الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، كما أكد ذلك جلالة الملك فى خطاب سابق. لكن الخطأ والضرر الأكبر هو الاستمرار بنفس السياسات التى أدت إلى هذا الواقع المأزوم، دون اتخاذ الإجراءات الكفيلة بامتصاص الغضب المكتوم والحد من أجواء الاحتقان. إن الإقلاع الاقتصادى وتحقيق تنمية مستدامة فى البلاد، إضافة إلى حل المشكلات ذات الطبيعة الاجتماعية من تعليم وصحة وتوفير مناصب شغل.. إلخ، بات ضرورة لا تحتمل ترف التأجيل، مما يقتضى من كل القوى السياسية والاقتصادية والنقابية والاجتماعية التعبئة لفرض بديل تنموى جاد ومنسجم مع التطلعات الشعبية والطموحات الملكية التى عبر عنها الملك محمد السادس، عندما أكد ضرورة التنسيق والتضامن الكامل فى العمل بين مختلف الفاعلين المعنيين، واعتماد مقاربة تشاركية، والتركيز على تحقيق الأهداف. لأن المواطنين ينتظرون العمل الجاد والنتائج الملموسة.
والنتائج الملموسة لا يمكن أن تتأتى إلا من خلال: أولا، مصالحة وطنية عامة وشاملة. ومصارحة بين كل القوى الفاعلة. وتحمل المسئولية فى الاعتراف بالاختلالات والمحاسبة عليها. والابتعاد عن التجاذبات السياسية التى لم تزد الأوضاع فى المغرب إلا سوءا. والارتقاء الحكومى فى التعامل مع مطالب الشعب بدل تصريحات بعض المسئولين التى لا تعبر سوى عن ارتجالية وانعدام النضج فى التعامل مع الأزمات الاجتماعية. ثانيا، كما نص على ذلك خطاب الملك، إعادة هيكلة شاملة وعميقة، للبرامج والسياسات الوطنية، فى مجال الدعم والحماية الاجتماعية، ورفع اقتراحات بشأن تقييمها. وهو ما يتطلب اعتماد مقاربة تشاركية، وبعد النظر، والنفس الطويل، والسرعة فى التنفيذ أيضا .
على مدى عقدين، نجح المغرب فى بناء دولة باتت تقارن بدول أوروبا، خاصة فيما يتعلق بالبنى التحتية المختلفة؛ ولا بد من الحفاظ على هذه الإنجازات والسعى إلى استكمالها وتطويرها. لكن لا يزال ينقصنا، فى المقابل، بناء عدالة اجتماعية من خلال بناء مواطن يحظى بتعليم جيد وصحة ومرافق. مواطن منتج يوفر له منصب شغل وعيش كريم يحميه من الفقر والحاجة، أو خطر الالتحاق إما بعصابة إجرامية أو جماعة إرهابية. والتوجيهات التى تضمنها خطاب العرش تهدف الى بناء هذا المواطن من خلال معالجة الأزمة الناتجة عن وضعه الاجتماعي، الذى يعتبر المحرك الأساسى لأمن البلد واستقراره.
لمزيد من مقالات ◀ وفاء صندى رابط دائم: