مستقبل مصر يبدأ الآن، ولما كان هذا المستقبل هو مهمة المصريين فلا بد أن يكون هناك تفكير حول ذلك الذى نريده فى الزمن القادم. ذكرت من قبل أن السؤال عن توجه مصر معروف بحكم أن رؤية بدأت فعلا فى التطبيق هى 2030، وأن مشروعاتها وتوابعها سوف تأخذنا حتى نهاية العقد القادم. ما نحتاجه هو المتابعة فمع كل تقدم يجرى تبزغ فرص وتظهر مخاطر، ومن ثم قد نحتاج إلى عمليات تصحيح وإصلاح للمسار فى وقت أو آخر. وفيما أعلم فإنه لا يوجد طرف آخر يبحث فى المستقبل المصرى عدا ما ذكرناه حتى جاءتنى الدعوة المشتركة من مكتب الأمم المتحدة فى القاهرة بالمشاركة مع مكتبة الإسكندرية للمساهمة فى مشروع عن مستقبل مصر 2050. المشروع جزء من جهد للأمم المتحدة فى اتجاه التنمية المستدامة فى العالم كله لمقاومة الفقر والجوع والمرض والاحتباس الحرارى وغيره من الأهداف التى تهم البشرية جمعاء. وقد بدأ المشروع بجولة من خبراء مكتب الأمم المتحدة والمكتبة للقاء مع المفكرين والخبراء المصريين للحديث فى الموضوع، أعقبه لقاء عام حضره جميع من شاركوا، بالإضافة إلى قائمة جديدة من المستشارين والعاملين فى الحكومة للتداول حول محاور يجرى التداول بشأنها مثل شمولية التنمية، واستدامة الحياة، والتعليم فى 2030 وما بعدها، والحركة فى مصر حتى منتصف القرن، والعقد الاجتماعى والمؤسسات خلال نفس الفترة، وختاما بعلاقات مصر الإقليمية خلال هذا المدى الزمني. هذه المحاور سوف يتم التداول حولها فى مؤتمرات تنتهى بمؤتمر عام وتقرير يكون تنويرا للرأى العام وعونا للسياسات التى يضعها صانع القرار.
القواعد العامة للنشر والحديث هى ما يعرف فى دوائر البحث العلمى بقواعد شاتام هاوس وهذه مؤسسة بريطانية جعلت من المداولات موضوعات لا تنسب إلى أصحابها بالاسم حتى يكون للجميع حرية الحديث والتعليق دون حدود أو قيود. وعلى أى حال فإن ما سوف أذكره فى هذا المقال سوف يكون بعضا مما ذكرته فى هذه الاجتماعات والتى تنبع أصولها فى جميع الدراسات المستقبلية من مجموعة القواعد الفلسفية الجدلية أو الديالكتيكية التى تقول أولا بحتمية التغيير، فلا شيء ثابت أو جامد، وأن الإنسان لا ينزل فى نفس النهر مرتين. وثانيها أن هذا التغيير يأخذ شكل تغيرات كمية قد تكون من الصغر حتى لا تكون ملحوظة، ومع ذلك فإن تراكمها ينتج تغييرات نوعية أو كيفية يكون فيها الحال غير ما كان. وثالثها أن هذه التغيرات تسير فى اتجاه من البساطة إلى التعقيد، وكما يحدث فى الطبيعة والجينات فإنه يحدث أيضا للإنسان والمجتمعات. ورابعها أن كل ما سبق يحدث من خلال عملية للتفاعل بين الأصل ونقيضه والمركب الذى ينتج بينهما. وخامسها فإن ذلك يحدث فى المجتمعات البشرية بحيث تنتقل المجتمعات من التخلف إلى التقدم أى فى اتجاه القضاء على المجاعة، ومواجهة الأمراض، وانتهاء الحرب والصراع بين البشر. المعضلة فى هذا الأمر على المستوى الكونى وفقا لما قاله أحد المتحدثين فى لقاء مكتب الأمم المتحدة أنه لو كان الهدف أن يصير كل سكان كوكب الأرض مثل الولايات المتحدة فإن الكوكب يحتاج إلى أربعة أمثال ونصف الطاقة والقدرة الحالية للكوكب، أما إذا أردنا أن يكون الهدف أن يكون الجميع مثل سويسرا فإننا نحتاج مثل الأرض مرتين ونصف. القصد من ذلك أن للتقدم تكلفة، وهذه ربما نأتى بها من غزو كواكب أخري، أو نعرف كيف نستخدم ما لدى الكوكب بشكل أفضل.
مثل ذلك علينا أن نفكر فيه، وما يهمنا شيء سوى مصر بطبيعة الحال، وربما كان باستطاعتنا أن ننظر إلى المستقبل المقدر هذه المرة بمنتصف القرن الحالى إذا ما رجعنا نصف قرن إلى الوراء أى تكون سنة الأساس عام 1960 وسوف نجد أن عدد سكان مصر 26 مليونا يعيشون على 3% من مساحة الدولة، 90% منهم يعيشون فى الريف، و10% فى الحضر، ومن هؤلاء 10 ملايين يمثلون الطبقة الوسطي، والعمر المتوقع عند الميلاد أقل من 50 عاما. الآن فإن عدد سكان مصر 100 مليون تقريبا أى زاد عدد السكان أربع مرات، ويعيشون على 7% من مساحة مصر أى أكثر من ضعف ما كنا عليه، وزاد العمر المتوقع عند الميلاد إلى 73 سنة أى أصبح المصرى يعيش 23 عاما أكثر مما كان، بينما بلغ حجم الطبقة الوسطى 70 مليونا أى زاد سبع مرات خلال خمسين عاما. تقدمت مصر إلى حد كبير خاصة لو أدخلنا معايير أخرى مثل الاتصال والمواصلات وانتشار الأوبئة واكتشاف الأمراض، وطبيعة المسكن، والتقدم التكنولوجي، بل وحتى مواصفات الطبقة الوسطي. لن نحتاج الكثير من الموشرات على أى حال لكى نعرف أن «الزمن الجميل» ربما هو ما نعيش فيه؛ وعلى أى الحال فإن الجمال يكون دوما فى أعين الناظرين.
مستقبل مصر إذا حسبنا النقطة التى نبدأ منها «الآن»، وأخذنا نقطة أخرى فى عام 2030 نكون قد حققنا وقتها كل ما لدينا من خطط حالية للوصول إليها، فربما نأخذ الأمر كله إلى تصور الحال عام 2050. يمكن من الآن القول إن عدد سكان مصر سوف يكون 150 مليونا، ومثل ذلك سوف يكون مقلقا لو كان هذا العدد على مساحة 7% من أرض مصر فقط، ولكن المصريين سوف يعيشون على 12% من المساحة، وهذه وفقا للتطورات التكنولوجية المتصورة يمكن أن تعيش على 24% من المساحة المصرية وقدرها مليون كيلومتر مربع. ساعتها لن يكون المعمور لصيقا بوادى النيل كما كان العهد منذ وجدت البلاد، وإنما سوف تصير مصر دولة بحرية بامتياز انتقل فيها المصريون من النهر إلى البحر فى مجتمعات جديدة. وإذا سارت الأمور مثل ما أشرنا عليه، فإن تغيرا فى التفكير المصرى سوف يحدث من الكم إلى الكيف فى التعليم والصحة والسكن، مع رافعة فى التكنولوجيا ربما يحسن أن يكون لها حديث آخر.
لمزيد من مقالات ◀ د. عبدالمنعم سعيد رابط دائم: