رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

لحظات ساداتية

لم يكن الرئيس أنور السادات رئيسا عاديا من رؤساء مصر، حيث كان واحدا من قلة وضعت بصمتها علي التاريخ المصري وعلي تاريخ العالم عندما شكل مدرسة متكاملة في السياسة الدولية حول علاقة القوة بالدبلوماسية، والسلام وتحقيق المصالح الوطنية. ويشهد كل من اقتربوا من الرجل أنه كان لديه وضوح شديد في تحديد أهدافه؛ وفي الطريق إلي تحقيقها فإن معادلته قامت علي المرونة الشديدة في الشكل، والصلابة غير العادية في المضمون. لم يكن الشكل أقل أهمية من المضمون، ولكن مهمته مختلفة وهي تهيئة الأجواء والبيئة التفاوضية التي تسمح بتحقيق ما تذهب إليه الدولة. بمعني آخر أن مرونة الشكل تسمح بتهيئة الخصم لكي يقبل بما لم يكن يقبل به خاصة لو كانت توازنات القوي، وتحيزات النظام الدولي حاسمة فيما يتعلق ببقاء الطرف الآخر. اللحظات الساداتية تأتي عندما تكون توازنات القوي لا تسمح لأي من أطراف الصراع بالحصول علي تفوق تاريخي حاسم، ولا يكون للزمن نصيب إلا في الخسارة لجميع الأطراف. وفي العالم الآن ما يجعلنا نتذكر هذه اللحظات؛ وما نعرفه أن الكوريتين ـ الشمالية والجنوبية ـ تعيشان حالة من الصراع الأبدي التي أفرزت تقسيما لشبه الجزيرة الكورية، يفصل بينها مناطق منزوعة التسلح، وعلي جانبي الخط الفاصل يجري سباق كبير للتسلح وصل إلي الحافة النووية. هي حالة من حالات التقسيم جرت في وقت قسمت فيه فلسطين وفيتنام والهند ونتج عنها صراع صريح وكامن لا يبدو له حل ولا رجاء، ولكن للزمن ثمنا في كل الأحوال بأزماته وحروبه وسباق التسلح الذي لا يتوقف.

اللحظة الساداتية العظمي ظهرت في مطلع السبعينيات من القرن الماضي عندما فتح الرئيس القنوات مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وأعقبها بالمشهد العظيم في أكتوبر 1973 التي جعلت إسرائيل والولايات المتحدة تنظر لمصر من منظور مختلف وهو أن للاحتلال ثمنا، ولكن لزواله ثمنا أعظم وهو السلام مع مصر. زيارة القدس كسرت الكثير من الحواجز؛ ولكن أهم ما فيها كان أن مصر العظيمة لديها من الثقة في نفسها وقوتها ما يجعلها تذهب إلي العدو في عقر داره. أيامها رأت جماعة أن في الأمر عارا، ولكن التاريخ شهد للزعيم عندما باتت أعلام مصر خفاقة علي سيناء. واليوم بات المنهج ممكن التطبيق في أكثر من قضية عالمية كان الصراع فيها وجوديا ليس غالبا ولا مغلوبا، ولا منتصرا ولا مهزوما، وإنما وجود طرف لا يعني سوي زوال الطرف الآخر. في كوريا كان التقسيم مرفوضا، وفي أحسن الأحوال مجرد انعكاس للحرب الباردة بين الشمال الشيوعي والجنوب الرأسمالي. انتهت الحرب الباردة وظلت الأمور علي حالها؛ ومع ازدهار كوريا الجنوبية بات التهديد كبيرا من الشمال الذي عوض الفقر بزيادة التسلح، وهكذا زاد العبء علي الطرفين حتي بات يقين بأنه لا وجود لضوء في نهاية النفق اللهم إلا إذا وجد الطرفان طريقا آخر. وكانت البداية مع الألعاب الأوليمبية الشتوية التي أظهرت أن الكوريين في الشمال لا يختلفون عنهم في الجنوب، فزادت الاتصالات، ومعها دخلت الولايات المتحدة علي الخط فكانت قمة سنغافورة بين كيم جيم أون ودونالد ترامب لكي تكون صفقة ما زالت الأطراف تتواصل حول أساليب وزمن تطبيقها. عمليا وصلت الحرب الكورية إلي نهايتها، وبات الجديد هو البحث عن كيف يعيش الطرفان مع حقيقة السلام: كوريا الجنوبية يمكنها أن تعيش بتواصل أقل مع الولايات المتحدة أما كوريا الشمالية فإنها سوف تعيش الرخاء الذي تعيشه فيتنام.

مشهد آخرمثير جري منذ فترة قصيرة حينما تغير الحال تماما في منطقة القرن الإفريقي. ربما كانت اللحظة الفاصلة هي تولي آبي أحمد السلطة في إثيوبيا، وهو مثله مثل كل الزعماء الإثيوبيين يريدون التنمية والرخاء للمركب الشعبي الإثيوبي، ولكن ذلك لا يمكن تحقيقه وإثيوبيا لديها معضلات نيلية مع مصر والسودان، وحرب وصراع وجودي مع إريتريا منذ استقلال الأخيرة عن إثيوبيا. أهم ما في اللحظات السياسية هو قدرة الدولة علي تحديد أولوياتها ومصالحها القومية، وعندما باتت إثيوبيا والإثيوبيون هما الهم الأول والمصلحة الكبري فإن النظرة للمصالح تكون أكثر عملية، وتصبح المقارنة بين تغيير المسار واستمرار الأمر الواقع بكل ما فيه من تكاليف لصالح الخيار الأول من خلال خطوات جريئة. هي لحظة ساداتية نظرت إلي حقيقة أن أسوأ الاختيارات هو أن تبقي الأمور علي ما هي عليه، ومن ثم كانت العودة إلي اتفاق الجزائر لإنهاء الحرب بين إثيوبيا وإريتريا، والتمسك بنص وروح اتفاقية المسار بين مصر وإثيوبيا، وفي الحالتين كانت الأذرع مفتوحة والاستعداد للتعاون في مجالات تفتح المواني الإريترية لإثيوبيا، ورفع الضغوط علي إمكانيات التوافق علي اتفاق مع القاهرة.

ورغم الضوضاء والضجيج الكثير في الولايات المتحدة وأوروبا فإن قمة هلسنكي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين فتحت طرقا كثيرة للتعامل مع أزمات متعددة تلم بالنظام الدولي وتدفع البلدين دفعا إلي الصدام. التقي الرئيسان وعلي قائمة أعمالهما أزمة أوكرانيا بشقيها المتعلقين بالقرم ومنطقة الشرق الأوكرانية؛ وأزمة انتشار الأسلحة النووية المتعلقة بالانسحاب الأمريكي من الاتفاق مع إيران؛ وأزمة سوريا المستعصية منذ زمن بما تشمله من تماس مع أزمات أخري تدخل فيها إسرائيل وتركيا ولبنان. اللحظة الساداتية هنا تتخطي الأزمات كلها بأن تبدأ انفراجا يقوم علي توافق أن الحل أو الحلحلة في كل الأحوال أفضل من استمرار أوضاع متفجرة. في يوم ما حدث الوفاق بين أمريكا والاتحاد السوفيتي في مطلع سبعينيات القرن الماضي فكان حل المعضلة الفيتنامية وتوابعها في كمبوديا ولاوس.

هل فكر الزعماء في كل ما سبق من أزمات في اللحظات الساداتية وما قدمته من دروس، أم أن الأمور كلها تفصح عن مدرسة للتعامل مع مشكلات ومعضلات مستعصية ربما تعوق بلدانا عن التنمية، أو تشعل حروبا عالمية أو إقليمية، ومن حسن حظ المصريين أنهم أدركوا ذلك مبكرا، والمسألة باتت كيف يمكنهم استغلال السلام الذي حصلوا عليه ؟!


لمزيد من مقالات د. عبدالمنعم سعيد

رابط دائم: