رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المشروعات القومية ومعضلة تمويل التنمية الشاملة

أحد الملامح الأساسية لعملية التنمية الجارية فى مصر، التى انطلقت مع تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى السلطة فى عام 2014، هو التركيز على البنية الأساسية والمشروعات القومية، التى توزعت على مختلف القطاعات الاقتصادية (التصنيع، الزراعة، الثروة السكمية، الإسكان، الطرق، التعدين، الطاقة، خدمات التجارة). وقد أثار هذا التوجه نقدا من جانب البعض. وكانت هناك ثلاث دعاوى أساسية فى هذا الإطار. الأولي، أن الدولة ركزت على مشروعات البنية الأساسية على حساب المكون البشرى فى عملية التنمية، خاصة قطاعى التعليم والصحة. وأفاض العديد من هذه الانتقادات فى تأكيد أن الخبرات التنموية الدولية السابقة انطلقت من التركيز على قطاع التعليم، باعتباره- وفقا لهؤلاء- جوهر عملية التنمية وشرطها الرئيسي. الثانية، أنه لم تكن هناك علاقة قوية بين الإنفاق الضخم فى هذه المشروعات القومية والعائدات المتحققة بالنسبة للمواطن العادي. الثالثة، أن تنفيذ هذه المشروعات اعتمد على الفاعلين الرسميين مقابل تهميش لدور القطاع الخاص.

هذه الدعاوى تبدو ظاهريا منطقية. لكنها فى الحقيقة تفتقد إلى فهم الحالة المصرية فى سياق الخبرات الدولية السابقة، وفى سياق التحديات الأساسية التى تواجه عملية التنمية فى مصر.

أولا، لا يمكن بأى حال من الأحوال التقليل من أهمية قطاعى التعليم والصحة، ولا يمكن القول إنه لا توجد علاقة قوية ومهمة بين الاستثمار فى هذين القطاعين المهمين من ناحية، والتنمية الشاملة من ناحية أخري، فالاستثمار فى التعليم هو استثمار فى بناء الكوادر البشرية اللازمة لتنفيذ وإدارة عملية التنمية، كما أن الاستثمار فى الصحة هو بمثابة صيانة لهذا المورد البشري. وحتى إذا افترضنا - جدلا - أن الدولة قد أغفلت الاهتمام بقطاعى التعليم والصحة خلال السنوات الأربع السابقة، وهو افتراض غير دقيق وينفيه العديد من المؤشرات (المشروع القومى للقضاء على فيروس C مثالا مهما فى هذا المجال)، فإنه تجدر الإشارة إلى ثلاث ملاحظات أساسية فى هذا الشأن.

الملاحظة الأولي، أن القول بأن الاستثمار فى مشروعات البنية الأساسية هو استثمار بعيد المدى يحتاج إلى مدى زمنى طويل نسبيا حتى يؤتى آثاره بالنسبة للمواطن العادي، هو قول يتجاهل تماما طبيعة الإنفاق فى قطاعى الصحة والتعليم، فإذا كانت مشروعات البنية الأساسية موضوع الاستثمار خلال السنوات الأربع الماضية هى استثمارات بعيدة المدى فإن الاستثمار فى قطاعى التعليم والصحة هو استثمار بعيد المدى جدا، كما أنه استثمار كثيف الإنفاق، أو كثيف رأس المال، بالمقارنة بمشروعات البنية الأساسية. على سبيل المثال، فإن إصلاح حقيقى وجذرى للتعليم فى مصر يتطلب بناء منظومة تعليمية متكاملة تتعامل مع الداخلين الجدد إلى تلك العملية بدءا من مرحلة رياض الأطفال، الأمر الذى يعنى انتظار مدة تتراوح بين 15و 20 سنة قبل أن يظهر الجيل الأول لهذه المنظومة ويندمج فى عملية التنمية.

الملاحظة الثانية، أن هذه الادعاءات تتجاهل حقيقة مهمة أن معظم التجارب التنموية باستثناءات محدودة- واجهت ما عُرف بـ «معضلة تمويل التنمية»، فى ظل ندرة الموارد المالية المتاحة. وقد لجأت هذه التجارب إلى إحدى آليتين أو المزج بينهما بدرجات مختلفة، هما الاقتراض وجذب الاستثمار الأجنبى المباشر. ولا تمثل مصر استثناء من هذه الظاهرة. وفى ظل هذه المعضلة، يمكن تفهم مركزية المشروعات القومية والبنية الأساسية فى استراتيجية التنمية المصرية خلال السنوات الأربع الماضية من زاوية ارتباطها الوثيق بجذب الاستثمارات الأجنبية. فتوافر البنية الأساسية، وتوافر قائمة من المشروعات المقترحة يمثل شروطا مهمة لجذب الاستثمار الأجنبى المباشر. مرة أخرى وبالعودة إلى قضيتى التعليم والصحة، فإن مؤشرات التعليم والصحة لا تمثل المؤشرات الأساسية والحاكمة بالنسبة للمستثمر الأجنبى فى اتخاذ قرار بتحديد وجهته الاستثمارية، بالمقارنة بمركزية مؤشرات الاستقرار السياسى والأمني، وتوافر البنية الأساسية، ووجود قائمة من المشروعات المقترحة، بجانب بيئة تشريعية ومالية ملائمة. بمعنى آخر، فقد اعتمدت الدولة المصرية على آلية الاقتراض بجانب نسبة من الادخار المحلي- كآلية لتمويل عملية التنمية فى المرحلة الأولي، مع التركيز على مشروعات البنية الأساسية والمشروعات القومية، كشروط أساسية لجذب وتعظيم مساهمة الاستثمار الأجنبى المباشر فى هذا التمويل فى مرحلة تالية. ولذلك، كان من الطبيعى أن يتم إصلاح البيئة التشريعية والمالية (قانون الاستثمار وإصلاح نظام سعر الصرف) بالتوازى مع الاستثمار فى البنية الأساسية والمشروعات القومية، باعتبارها شروطا رئيسية لجذب الاستثمار الأجنبى المباشر.

الملاحظة الثالثة، لا توجد تجربة تنموية دون فلسفة تحكمها، أو رؤية نظرية تضبط توجهاتها وتحدد أولويات عملها، بدءا من تحديد القطاعات الاقتصادية والأقاليم الجغرافية الأولَّى بالتنمية، وانتهاء بتحديد الشرائح الاجتماعية المستهدفة. تحديد هذه الفلسفة وهذه الأولويات يستتبعه تحديد السياسات الاقتصادية والمالية المطبقة. وقد أصبح تحديد هذه الفلسفة أحد التحديات أو الشروط الأساسية لبدء تجارب الموجات التنموية الثانية والثالثة، التى شهدتها شرق آسيا وجنوب شرقى آسيا بالإضافة إلى بعض دول أمريكيا اللاتينية. وقد تطور فى هذا الإطار نظريات ومفاهيم عدة، حاولت إما الإجابة عن سؤال: كيف يمكن للدول النامية تدشين وإدارة تجاربها التنموية؟ أو تفسير كيف نجحت هذه الدول فى تدشين وإدارة نماذحها التنموية؟ كان من أبرز هذه النظريات ما عرف بنظرية «الدولة التنموية» developmental state، التى استندت إليها معظم التجارب الآسيوية واللاتينية. ومع أنه لا توجد طبعة واحدة من هذه النظرية على المستوى التطبيقي، لكن يجمع بينها عدد من السمات المشتركة، أبرزها مركزية دور الدولة فى عملية التنمية. بمعنى آخر، فإن مركزية دور الدولة فى عملية التنمية الراهنة فى مصر، لا يعكس رغبة فى تهميش دور القطاع الخاص أو استبعاده من تلك العملية بقدر ما يعكس الاستناد إلى مفهوم وخبرات دولية سابقة فى هذا المجال، وتحرير عملية التنمية من بعض السلبيات التى عانى منها القطاع الخاص خلال العقود الماضية.

غاية القول، إن الملامح العامة لعملية التنمية الاقتصادية فى مصر خلال السنوات الأربع الماضية حكمتها استراتيجية ورؤية محددة وواضحة، عنوانها الرئيسى هو معالجة «معضلة تمويل التنمية»، عبر سلسلة من المشروعات القومية، ستمثل الرافعة الأساسية لتحقيق نقلة نوعية فى حجم الاستثمار الأجنبى المباشر، على نحو يسهم فى الانتقال إلى التوسع فى تمويل الاستثمار فى رأس المال البشري، وهو استثمار طويل الأجل ومكلف بطبيعته.

[email protected]
لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات

رابط دائم: