تعلمنا فى دروس العلاقات الدولية أن القادة يتخذون القرارات التى تعزز المصلحة الوطنية لبلادهم. حاولت تطبيق هذا الدرس على قرار الرئيس ترامب بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل فلم أنجح. كل الدلائل تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست أفضل حالا بعد اتخاذ هذا القرار عما كانت عليه قبلها.
أصبحت الولايات المتحدة فى حالة عزلة بسبب سياسات ترامب، ولم أجد لأمريكا مصلحة فى هذا. عزلة أمريكا فى مجلس الأمن كانت جلية، لكن هذا لم يكن كافيا لردع الرئيس ترامب. هددت أمريكا بمنع المساعدات عن الدول التى تختار التصويت ضدها فى الجمعية العامة، لكن أمريكا خسرت جولة التصويت التالية أيضا. وواصلت إدارة ترامب السير فى نفس الطريق، فهددت بوقف المساهمات الأمريكية فى ميزانيات المنظمات الدولية التى تقبل بعضوية فلسطين فيها، وهو القرار الذى لم تختبر آثاره بعد.. أمريكا تسهم بما يزيد على عشرين بالمائة من ميزانية منظمات الأمم المتحدة، وقد تتردد بعض الدول فى إظهار التعاطف مع الفلسطينيين حرصا على المنظمة الدولية.
يظن الفلسطينيون والعرب اليائسون أن النضال القانونى فى ساحات الأمم المتحدة والمحاكم الدولية هو ما بقى لهم، وها هى إدارة ترامب تحرمهم من النضال القانونى أيضا. حولت إدارة ترامب الولايات المتحدة إلى جلاد يطارد الفلسطينيين فى المحافل الدولية، دون أن يكون للولايات المتحدة مكسب واضح من وراء ذلك.. حرمان الفلسطينيين من أدوات النضال القانونى والسياسى يتركهم فريسة سهلة الافتراس من جانب منظمات التطرف والإرهاب المنتشرة فى منطقتنا، ولم أفهم المصلحة الأمريكية من وراء ذلك.
تصرفات إدارة ترامب جعلت من دروس علم العلاقات الدولية أضحوكة مرتين، مرة عندما تصرفت هذه الإدارة بطريقة تضر بالمصالح الأمريكية، ومرة ثانية عندما فشلت قواعد علم العلاقات الدولية فى تفسير قرارات أكبر دولة فى العالم، وهى نفس الدولة التى أبدع علماؤها فى شرح قواعد السلوك الدولى والعلاقات الدولية، فأين المشكلة؟
هناك عدة أوجه لهذا اللغز. فمن ناحية يوجد خلاف كبير بين الأمريكيين على تعريف المصلحة الوطنية العليا لأمريكا، وفى هذا لا تختلف أمريكا عن أى بلد آخر. لا يوجد نص مكتوب يحدد المصلحة الوطنية العليا لأى بلد. كل ما لدينا هو مجرد عبارات عامة، يمكن تلبيسها بعشرات السياسات والإجراءات المتناقضة، فالمسألة فى النهاية مسألة انحيازات وعقائد وأفكار.
تاريخيا، انقسم الأمريكيون بين تيارين كبيرين، أحدهما انعزالى والآخر عالمي. يرى أنصار التيار الانعزالى أن مصير بلدهم غير مرتبط بمصير العالم، وأن الولايات المتحدة يمكنها الحفاظ على أمنها ورفاهيتها بغض النظر عما يحدث فى العالم. التيار العالمى على الجانب الآخر، يرى ارتباط المصالح الأمريكية بما يجرى فى مناطق العالم الأخري، وأن على أمريكا القيام بدور قيادى لصنع وتشكيل العالم الملائم لتعزيز مصالحها.. الرئيس ترامب من أنصار التيار الانعزالي. العزلة فى الأمم المتحدة، وربما الانسحاب من المنظمة الدولية كلية، أمر لا يتعارض مع معتقدات التيار الانعزالى فى السياسة الأمريكية.
الرئيس ترامب رجل تجارة وأموال، يرفض تقديم خدمات مجانية لأحد، فحتى عندما يرى الرئيس ترامب لبلاده دورا فى توفير الأمن لبلاد أخري، فإنه لا يفعل ذلك من منطلق قيامه بمسئوليات قيادية، وإنما لأنه يقدم للآخرين خدمة يتوقع منهم دفع ثمنها. ولكن لماذا تتحمل الولايات المتحدة مشقة مواجهة العالم كله من أجل إسرائيل؟ ألا يعد هذا من قبيل تقديم خدمة مجانية لهذه الدولة؟ ولماذا يتصرف الرئيس ترامب بهذا الكرم مع إسرائيل دونا عن أى بلد آخر فى العالم؟
مزيج العقيدة والمصلحة ربما يشرحان وضع إسرائيل الاستثنائي.. فى الولايات المتحدة هناك عدد كبير من البروتستانت الأصوليين. يفسر هؤلاء النصوص المسيحية المقدسة بطريقة فريدة، يحتل فيها اليهود ودولتهم مكانة مركزية. أورشليم القدس لها مكانة خاصة فى هذه العقيدة، فدولة اليهود يجب أن تقام ثانية، وإلى دولة اليهود المقامة فى أورشليم سيعود المسيح، وفيها ستدور معركة «أرماجدون» آخر حروب الزمان.. ستسفر الحرب عن موت ثلثى اليهود، لكن هذا غير مهم. المهم هو أن الباقين من اليهود سيصبحون من أتباع المسيح العائد، والذى سيحكم العالم من أورشليم لمدة ألف عام.. هكذا يعتقد هؤلاء، ولهذا صوت غالبية بين أعضاء الكونجرس عام 1995 للاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، ولنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
لم يكن قرار الكونجرس عام 1995 مجاملة لإسرائيل، بقدر ما كان مغازلة لتيار كبير بين الناخبين الأمريكيين، وهو نفس التيار الذى أراد الرئيس ترامب كسب وده عندما قرر نقل السفارة إلى القدس. لقد استطاع رؤساء أمريكا المتعاقبون التهرب من تنفيذ هذا القرار لأكثر من عشرين عاما، لكن الرئيس ترامب يبدو ضعيفا جدا فى مواجهة البروتستانت الأصوليين، فهؤلاء يمثلون 26% من إجمالى الناخبين الأمريكيين، وصوت 82% منهم للرئيس ترامب، بحيث أن نحو 40% من إجمالى الأصوات التى فاز بها ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة جاءت من ناخبين بروتستانت أصوليين.
وكان من الصعب على المتدينين التصويت لمصلحة هيلارى كلينتون الليبرالية، فى نفس الوقت الذى اختار فيه ترامب - الذى يصعب اعتباره متدينا - أحد رموز تيار الأصولية البروتستانتية نائبا له. يصر نائب الرئيس مايك بنس على أن يصف نفسه بأنه مسيحيا، ثم محافظا، ثم جمهوريا، بهذا الترتيب. يتمتع بنس بشعبية كبيرة بين البروتستانت الأصوليين، الذين لم يسبق لواحد من أكثرهم تشددا الوصول لهذه المكانة العالية.
وأخذ ترامب قراره الظالم بشأن القدس بينما كان نائب الرئيس يقف خلفه.. تم اتخاذ القرار بسبب عقيدة وأفكار وانحيازات، حتى لو لم تكن أفكار وعقيدة الرئيس نفسه. المصلحة كانت حاضرة فى قرار ترامب، لكنها لم تكن مصلحة الولايات المتحدة، بقدر ما كانت مصلحة بعض الأمريكيين، والمصلحة الشخصية للرئيس ترامب فى تعزيز قاعدته الانتخابية. خسرت أمريكا من سمعتها ومكانتها، لكن الرئيس كسب أصواتا انتخابية تنفعه فى الانتخابات المقبلة. ولهذا أعطى ترامب القدس لإسرائيل.
لمزيد من مقالات د.جمال عبدالجواد رابط دائم: