رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مقاومة ذكية وتفاوض فعال

تصريحات رافضة، اجتماعات تصدر عنها بيانات إدانة قوية، قرارات تصدر عن الجمعية العامة بعد أن أفشل الفيتو الأمريكى مشروع قرار تم التقدم به لمجلس الأمن. مظاهرات، وإلقاء حجارة، وشهداء يذهبون، ورفاق لهم تعتقلهم قوات الاحتلال. كل هذا حدث بعد قرار ترامب إياه، لكن القدس وكل فلسطين مازالت تحت الاحتلال. لأن أزمة القدس ليست الأولى، ولأن كل ما قيل سمعناه قبل ذلك مئات المرات، فإن القليلين فقط أخذوا الكلام الذى قيل على محمل الجد. القرار الأمريكى ليس فريدا فى نوعه، فالكثير من الإجراءات المستهينة بالحق العربى صدرت قبل ذلك عن أمريكا وإسرائيل. ردود الفعل الفلسطينية والعربية ليس فيها جديد أيضا، فالأمر كله يبدو كما لو كنا نشاهد فيلما سبق أن شاهدناه عدة مرات. أصيب الكثيرون بالملل، فانصرفوا لشئونهم، مكتفين بسماع عناوين الأخبار، دون أن يلاحظوا أن الأمر كان له أن يصبح أكثر سوءا بكثير لو أن الملل أصابنا جميعا، فامتنعنا عن «ارتكاب» ردود الأفعال المكررة والمتوقعة وغير الكافية لتحرير ولو شبر واحد من أرض فلسطين.

ردود فعلنا تقول للعالم إن العرب يغضبون للاستهانة بحقوقهم. هذا جيد. لكن ردود فعلنا تقول للعالم أيضا إن أفعالنا محدودة القيمة وغير مجدية، وهذا سيىء جدا. فهل من سبيل للانتقال من مرحلة إعلان الغضب، إلى مرحلة ممارسة الفعالية والتأثير، أى إلى مرحلة تحرير أكبر قسم ممكن من الأرض العربية من الاحتلال الإسرائيلي، فأى يوم إضافى تبقى فيه الأراضى الفلسطينية تحت الاحتلال يساوى مزيدا من الاستيطان والمستوطنين، ومزيدا من طمس المعالم الفلسطينية. فالأرض المحتلة ليست أمانة تركناها عند إسرائيل، سنستردها عندما يحين الوقت. الأرض الفلسطينية تحت احتلال إسرائيلى يقوم كل يوم بتغيير الحقائق العربية، وإنشاء حقائق صهيونية جديدة محلها، وكلما تأخرنا فى تحرير الأرض أنشأ الصهاينة المزيد من الحقائق الجديدة. حدث هذا فى الجزء من فلسطين الذى تم احتلاله عام 1948، وهو يحدث أمام أعيننا فى الأرض التى تم احتلالها عام 1967، خاصة فى القدس.

ليس من السهل تقديم النصيحة للفلسطينيين، فقد جربوا عبر سنوات الاحتلال السبعين كل شيء يمكن تجربته. لقد شن الفلسطينيون حرب العصابات، انطلاقا من الأرض الفلسطينية، وعبر الحدود من دول الطوق العربي. حارب الفلسطينيون كما لو كان لديهم جيش نظامى، فتصدوا لهجمات العدو فى قرية الكرامة، وصمدوا ضد حصارهم فى بيروت. خطف الفلسطينيون الطائرات، واحتجزوا الرهائن، واغتالوا رموز العدو، وشنوا هجمات انتحارية، وتظاهروا، وألقوا بالحجارة.

رفع الفلسطينيون شعارات ورايات وطنية وقومية وإسلامية. رفض الفلسطينيون الاعتراف بإسرائيل، وقاطعوا كل محفل شاركت فيه، وتمسكوا بأنه لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض. غير العرب موقفهم من إسرائيل، وغير الفلسطينيون موقفهم منها أيضا، فاعترفوا بإسرائيل، وتفاوضوا معها، ونسقوا معها أمنيا. لقد فعل الفلسطينيون كل شيء يمكن عمله حربا وتفاوضا، ومع هذا فحقوقهم مازالت مهضومة وأرضهم مازالت مغتصبة. إنه فعلا وضع يدعو لليأس، فما العمل إذن؟

المطلوب هو مقاومة، شرط أن تكون ذكية؛ وتفاوض، شرط أن يكون فعالا؛ على أن ترتبط المقاومة والتفاوض فى استراتيجية سياسية واحدة. هذا، فى نظري، أهم دروس سبعين عاما من المعاناة والنضال. إسرائيل لن تتخلى للفلسطينيين عن شبر واحد من الأرض ما لم تكن مجبرة على ذلك، وهى لن تقدم تنازلا واحدا ما لم يكن ذلك يجعلها أفضل حالا مما لو امتنعت عن تقديم التنازلات. إنه مزيج الإكراه والإغراء الذى يصنع الاستراتيجية المطلوبة فلسطينيا.

مطلوب من الفلسطينيين شن مقاومة ضارية ضد الاحتلال، باستخدام أساليب لا يستطيع الإسرائيليون الانتصار عليها. دعك من المقاومة باستخدام السلاح، فالسلاح هو أكثر ما يجيد الاحتلال استخدامه. ليس فى استطاعة الفلسطينيين هزيمة إسرائيل عسكريا، وكل السلاح الذى وضع فى أيديهم لم يحرر شبرا من فلسطين فى الماضي، ولن يفعل فى المستقبل. لو قرر الفلسطينيون نزع السلاح من جانب واحد لما طال أمد الاحتلال يوما واحدا، ولتغير الاصطفاف والتأييد الدولى وراءهم بشكل جذري. المقاومة الذكية فلسطينيا هى مقاومة غير عنيفة، يسقط فيها ضحايا فلسطينيون غير مسلحين، ولا حتى بالحجارة، أمام عدسات وكاميرات مصورين يتولون نقل الصورة للعالم. أتذكر مشهد المقاومين الهنود غير المسلحين وهم يتقدمون صفا وراء آخر، ليقوم جنود الاحتلال البريطانى بضربهم بوحشية، حتى يسقطوا. لقد ألهمت قيادة غاندى المقاومين الهنود ضد الاحتلال البريطاني، فهل هناك غاندى فلسطينى مستعد لإلهام الفلسطينيين. المقاومة الذكية لا تبخل بتقديم التضحيات المادية. المقاومة الذكية تقدم تضحيات مادية، فى مقابل إلحاق ضرر سياسى ومعنوى بالاحتلال. تعرية الاحتلال من الشرعية والأخلاقية هو هدف المقاومة الذكية، وهو أكثر الطرق فعالية للاستفادة من التعاطف المتزايد للمجتمع الدولى والمجتمع المدنى العالمى مع القضية الفلسطينية. المقاومة غير العنيفة ليست بالشيء الجديد على الفلسطينيين، فقد جربوها بنجاح فى الانتفاضة الأولى، وما عليهم سوى دراسة هذه التجربة وتطويرها وفقا للمستجدات. المقاومة الذكية يصاحبها تفاوض فعال. التفاوض الفعال هو تفاوض يتقدم بشكل ثابت من أجل تحقيق الهدف، وليس مباراة سجالية مع العدو. التفاوض الفعال يقرأ ميزان القوة بدقة؛ يعترف به، ولا يلعنه؛ يحشد كل أوراق الضغط التى تعزز موقفه، لكى يعقد أفضل اتفاق ممكن.

أفضل اتفاق ممكن فلسطينيا هو بالتأكيد اتفاق غير عادل، لكنه اتفاق يحمى ما بقى من القدس وكل الأراضى الخاضعة للاحتلال. حماية الممكن من الحق الفلسطينى أفضل من انتظار حل عادل يستعيد كل الحقوق التى أضاعها الأجداد والآباء، والتى سيضيعها الأبناء فى المستقبل لو ظلوا يفكرون ويعملون بنفس الطريقة.

المقاومة الذكية والتفاوض الفعال يحتاج عقلا وقيادة فلسطينية متعالية على الصغائر الفصائلية. فقط قيادة مشتركة فتحاوية حمساوية يمكنها تطوير وتطبيق هكذا استراتيجية. دون تعاون مخلص بين فتح وحماس، فإن المزايدة والإفشال المتبادل سيبقى يحكم السياسة الفلسطينية، وسيبقى تحقيق مكسب تافه على الخصم الأيديولوجى أهم من أى انتصار يتحقق ضد إسرائيل.


لمزيد من مقالات ◀ د.جمال عبدالجواد

رابط دائم: