تُرَى هل أخطأ الكثيرون من دارسي الحضارة العربية والإسلامية، عندما أرجعوا ركودها في القرون العشرة الأخيرة، إلى هذا النوع الغريب وغير المفهوم، من تصلب شرايين الفكر، الناتج في الأساس عن الحفظ الأعمى للنصوص، وعن الالتزام الحرفي بما قاله الأولون والسابقون، علي الرغم من أن القرآن الكريم، الذي يمثل المرجعية الأم عند العرب والمسلمين، لا تضاهيه مرجعية في العالم في تمرده على السابقين، وفي رفضه الإتباع الأعمى للآباء والأجداد؟
وهل كان بيير أبيلار الفيلسوف الفرنسي، المتردد الخائف على حق عندما زعم أن العقل قادر دون معونة الوحي على حل التناقضات الموجودة بين نتاج الفكر الإنساني وبين معطيات الكتاب المقدس، ليعلن بعد ذلك وهو يلتفت مذعورا إلى سيف القديس بولس المسلط على عنقه، أنه لا يريد أن يكون فيلسوفا، إذا عنى ذلك أن يصطدم بالقديس بولس، ولا أن يكون أرسطيا، إذا عنى ذلك القطيعة مع المسيح؟
ولأنه أصبح يقتات على وهم المعرفة وفضولها، بعيدا عن موائد العلم ونوره، افتقد العقل العربي، الكثير من توهجه وصوابه، على الرغم من رصيده العلمي والحضاري وتاريخه الفكري والثقافي، ففقد رشده وتوازنه، وغدا عاجزا عن حسن الإدراك والوعي لحركة التاريخ، فأصيب بالعجز عن النظرة الكلية للأمور، واستشراف آفاق المستقبل وضياع الرؤية الشاملة وعدم إبصار الأولويات وتوالي النكسات، وغدا عقلا مسترخيا، يستقبل ما يرد إليه، لا من خلال المحاكمة العقلية بوسائل اختبار الخطأ والصواب، بل من خلال تعطيل لغة العلم والحوار على الأقل بينه وبين نفسه. لابد من الاعتراف بذلك، لا بد من الاعتراف بأن العقل العربي المعاصر، مازال يحبو في روضة الديمقراطية الفكرية، ولا يزال خاضعا لتأثر ثقافة القطيع.
البعض بل الكثير من القراء الكرام، ربما ينظر للوهلة الأولي لهذا الكلام، علي أنه نوع من جلد الذات، ولكن سأدعوكم ونفسي كي نغادر عواطفنا وأهواءنا، لنقرر معا خارطة طريق جديدة نسلك من خلالها دروب الفكر وإعمال العقل، لعلها توقظ فينا ما بداخلنا، فتعود بنا إلى دهاليز الذاكرة، لنرسم بريشة العقل طريق الخروج من الصندوق.
أما آن الأوان للعقل العربي، أن يفيق من حالة الغياب والتغييب واسترداد وعيه، وإسقاط كل الأعذار والمبررات. إنها دعوة للقراءة في ولادة الوعي ومخاض العقل، هي دعوة للتفكر والتأمل في الآن وغدا، إنها البداية والنهاية وما بينهما، إنها جوهر الحكاية بأكملها...
لمزيد من مقالات ابراهيم النجار; رابط دائم: