رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

رغم محنة القدس.. انتفاضة جديدة أمر مستبعد

قرار الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والبدء فى إجراءات نقل السفارة الأمريكية إليها، هو ضربة جديدة موجهة للشعب الفلسطينى وحقوقه المشروعة، وضربة لكل العرب والمسلمين الذين يعتبرون القدس وفلسطين قضية عربية وإسلامية. اتخذت حكومات العرب والمسلمين، ومعها حكومات أغلب دول العالم ذات الصلة، مواقف قوية رافضة القرار الأمريكي، فى مظاهرة تضامن وتأييد نادرة للحق الفلسطيني. غير أن رد فعل حكومات العرب والمسلمين لم يصل إلى حد معاقبة أمريكا على استهانتها بمشاعرهم وبحقوق الفلسطينيين، وهو رد الفعل الذى اعتبره البعض أقل مما ينبغي، ومثله أيضا جاء رد الفعل الشعبى على القرار الأمريكي، أقل كثيرا مما كان واجبا.

فى فترات سابقة كانت تطورات شبيهة بالقرار الأمريكى بشأن القدس تمثل سببا كافيا لإشعال موجات احتجاج شعبى واسعة النطاق. فى الثامن والعشرين من سبتمبر عام 2000 قام مجموعة من اليهود بزعامة أرييل شارون بالدخول إلى المسجد الأقصى، زاعما دوام السيادة الإسرائيلية على الحرم الشريف. اشتبك الفلسطينيون مع الشرطة الإسرائيلية التى حمت عضو الكنيست، وسقط فى هذا اليوم سبعة من الشهداء، فكانت هذه بداية الانتفاضة الثانية التى تواصلت طوال السنوات الأربع التالية، وسقط خلال أحداثها ما زاد على أربعة آلاف من الشهداء الفلسطينيين، فيما فقد أكثر من ألف من الإسرائيليين خلالها حياتهم.

لم تكن الانتفاضة الثانية هى آخر أعمال المقاومة الشعبية الفلسطينية، ففى عام 2015 اندلعت ما عرفت بانتفاضة السكاكين، عندما أدى اعتداء الجنود الإسرائيليين على فلسطينيات معتصمات فى المسجد الأقصى لإثارة موجة من المقاومة عن طريق طعن جنود الاحتلال بالسكاكين. وفى شهر يوليو من هذا العام انتفض الفلسطينيون لمنع إسرائيل من تغيير الوضع القائم فى القدس، عندما حاولت إقامة نظام مراقبة وبوابات كشف معادن على مداخل المسجد الأقصى، وهو الإجراء الذى نجح الفلسطينيون فى إجبار إسرائيل على التراجع عنه بعد أن قدموا عددا كبيرا من الشهداء.

كانت الانتفاضة الفلسطينية فى عام 2000 سببا فى اندلاع احتجاجات كبرى للتضامن مع الشعب الفلسطينى فى بلاد عربية وإسلامية كثيرة. خرجت التظاهرات، وتكونت لجان شعبية لمناصرة الانتفاضة الفلسطينية، وفى مصر بالذات كانت موجة التضامن الشعبى مع الانتفاضة غير مسبوقة، حتى إن أنشطة مناصرة الشعب الفلسطينى تعتبر البداية الحقيقية لموجة الاحتجاجات المتصاعدة التى انتهت بثورة الخامس والعشرين من يناير.

توقع البعض اشتعال انتفاضة فلسطينية كبرى جديدة، وتوابعها العربية، ردا على قرارات الرئيس ترامب الجائرة. واليوم، وبعد أكثر من أسبوع على القرار الأمريكي، فإن ردة فعل الشارع العربى والفلسطينى جاءت أقل كثيرا مما توقعه هذا البعض. الشارع هو التعبير الاصطلاحى الشائع عربيا للدلالة على الجماهير العربية، وهى الكتلة الكبيرة من المواطنين غير المنتمين وغير المؤطرين سياسيا. مزاج الجماهير العربية، فى المرحلة الراهنة، تغلب عليه مشاعر الإرهاق والشك وعدم الثقة: الإرهاق بسبب التكلفة الباهظة لصراعات السنوات الأخيرة؛ والشك فى جدوى خروج جماهيرى جديد؛ وعدم الثقة فى القيادات التى تدعو الجماهير للخروج. وفى ظل سيادة هذه المشاعر فإن خروجا جماهيريا كبيرا هو سيناريو بعيد الاحتمال.

الجماهير العربية تعانى من إرهاق حاد بعد أن تحملت الأعباء الناتجة عن تطورات السنوات الأخيرة، وهى النتائج التى كانت باهظة الكلفة بالنسبة لهذه الجماهير. ففى أغلب الدول العربية الرئيسية، شهدت السنوات السبع الأخيرة تطورات دفعت الجماهير تكلفتها العالية فى مجالى الأمن والاقتصاد، ويبدو أن الجماهير وصلت إلى حالة لا تجعلها مستعدة لتحمل أعباء إضافية.

الأكثر أهمية من مسألة الكلفة الباهظة هو الشك فى أن خروجا جماهيريا جديدا يمكن أن يسهم فى تحسين الأوضاع. لقد خرجت الجماهير العربية للشارع منذ عام 2011 كما لم تخرج منذ انتهت مرحلة الكفاح لطرد الاستعمار. باستثناء الوضع الملتبس فى تونس، حيث تحسن مستوى الحريات العامة والآليات الديمقراطية، بينما تدهور الوضعان الاقتصادى والأمني، فإن الخروج الجماهيرى الكبير فى باقى البلاد العربية لم يؤد إلا إلى تراجع على كل المستويات. وفى ظل هذه الخبرة المحبطة، فإنه لا يمكن اعتبار الغضب غير المقترن بالأمل سببا كافيا لدفع الجماهير للخروج.

فقدان الثقة فى التيارات والقيادات التى تدعو الجماهير للخروج هو عامل إضافى لا يشجع الجماهير على الاستجابة لهذه الدعوات. لقد نجحت تيارات ثورية عديدة إسلامية ويسارية وليبرالية فى إقناع الجماهير بالخروج فى الأحداث المعروفة بالربيع العربي. لكن تطورات الأحداث بينت أن هذه التيارات والقيادات لم تكن لديها خطة واضحة عن الطريقة التى سوف يتم بها توظيف هذا الخروج الجماهيرى بشكل فعال. لقد بينت الأحداث أن التيارات الثورية المختلفة لا تملك سوى إستراتيجية بسيطة تتلخص فى دفع الجماهير للخروج، كما لو كان الخروج الجماهيرى كفيلا، وبشكل تلقائي، بحل كل مشكلات التغيير والبناء والتفكير السياسي، وهو التصور الذى تأكدت سطحيته، والذى خسرت التيارات الثورية بسببه ثقة الجماهير.

الوضع فى فلسطين يشبه الوضع فى البلاد العربية الأخرى. لقد خرجت الجماهير الفلسطينية بلا تردد فى وقت كانت فيه تثق فى تيارات وتنظيمات تصدت لمهام القيادة، فكانت هناك فتح الممثلة للوطنية الفلسطينية وحماس الممثلة للتيار الإسلامي، وآخرون ممثلون لتيارات يسارية وعروبية. مازالت فتح وحماس قائمة، لكن الناس لم تعد تثق فى قدرة هذه التنظيمات على قيادتهم نحو استعادة الحق الفلسطيني. لم يبخل الناس بالعطاء عندما كانت العلاقة واضحة بين تقديم التضحيات من ناحية، وتقريب الفلسطينيين لحقوقهم الوطنية من ناحية أخرى. غير أن هذه العلاقة لم تعد واضحة، وفيما واصل بعض الناس تقديم التضحيات كراهية فى الاحتلال وليس أملا فى الانتصار، فإن آخرين كثر لم يعودوا مستعدين لتقديم تضحيات مجانية لا تقربهم من الهدف.

صحيح أن رد فعل الجماهير على قرار ترامب بشأن القدس جاء أقل مما ينبغي. وصحيح أيضا أن هذه الجماهير قامت فى السابق بالدور المتوقع منها كجماهير، فى الوقت الذى أخفقت فيه التيارات الثورية التى تصدت للقيادة فى القيام بدورها كقيادة، وهذه هى المشكلة.


لمزيد من مقالات ◀ د.جمال عبدالجواد

رابط دائم: