كأنه ما زال حاضرا بيننا لم يغب، ساكنا فينا ولم يرحل، متحركا معنا ولم يقعد، سابقا لنا ولم يتعب، ومتقدما علينا ولم يتأخر، يتطلع لما فيه الخير لوطنه، ويعمل لما يحقق مصالحه ويحفظ حقوقه، يعلو صوته محذرا، ويتوعد المفرطين مهددا، ويذكر الغافلين موجها، إذ كان يدرك بنفسه حقائق السياسة ومتاهات التفاوض، ويعرف خاتمة المقاومة ومآل الاستسلام، ويحيط علما بما يخطط لبلاده، وبما يراد لأهله وشعبه، ويعرف حقيقة عدوه، ويملك القدرة على تحديد نقاط ضعفه ومواضع الخلل عنده، ومعرفة عوامل قوته، وأسباب تفوقه وتقدمه، إذ كان يحسن قراءته، ولا تخيب فيه نظرته، فأعيا العدو يقظته، وأقلقه وعيه، وأربكه سعيه، فظن أنه يستطيع تغييبه، ويقوى على تعطيل فكره، والحد من انتشار فلسفته المقاومة.
ﻳﻘﻮﻝ ﺭﺋﻴﺲ ﺍﻟﻤﺨﺎﺑﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺔ السابق ﻋﻤﺮ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ، ﻟﻢ ﺃﺭﻯ ﻣﺸﻬﺪﺍ ﻛﻬﺬﺍ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻲ، ﺣﻴﻦ ﺣﻄﺖ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮﺍﺕ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﺭﺽ ﺍﻟﻤﻘﺎﻃﻌﺔ ﻓﻲ ﺭﺍﻡ ﺍﻟﻠﻪ, ﺭﺃﻳﻨﺎ ﺳﻴﻼ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻳﺘﺪﺍﻓﻌﻮﻥ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮﺍﺕ ﻳﺮﻳﺪﻭﻥ ﻓﺘﺤﻬﺎ ﻹﺧﺮﺍﺝ ﺟﺜﻤﺎﻥ ﺍﻟﺸﻬﻴﺪ ﻳﺎﺳﺮ ﻋﺮﻓﺎﺕ, ﻟﻢ ﺃﻛﻦ أتصور أننا ﺳﻨﺒﻘﻰ ﺑﺪﺍﺧﻞ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮة ﻟﻤﺪﺓ ﺗﻘﺎﺭﺏ ﺍﻟﺴﺎﻋﺘﻴﻦ، والمسئولين ﺍﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﻴﻦ ﻳﺤﺎﻭﻟﻮﻥ ﺇﻗﻨﺎﻉ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺄﻥ ﻳﺒﺘﻌﺪﻭﺍ ﻗﻠﻴﻼ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺴﻨﻰ ﻟﻨﺎ ﺇﺧﺮﺍﺝ ﺍﻟﺠﺜﻤﺎﻥ ﺑﻫﺪﻭﺀ, ﻭﺑﻌﺪ ﻫﺬﺍ ﻛﻠﻪ ﺣﺼﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺃﻋﻈﻢ. ﺣﻴﻦ ﺧﺮﺝ ﺟﺜﻤﺎﻥ ﺍﻟﺸﻬﻴﺪ ﻣﻦ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮﺓ، ﺑﺪﺃﺕ ﺍﻟﺠﻤﺎﻫﻴﺮ ﺑﺎﻟﺘﺪﺍﻓﻊ ﺃﻛﺜﺮ ﻭﺃﻛﺜﺮ، ﻭﺑﺪﺃﺕ ﺗﺘﺴﺎﺑﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺻﻮﻝ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﺍﻧﻔﺠﺮ ﺍﻟﺒﻜﺎﺀ ﻣﻦ ﻋﻴﻮﻧﻬﻢ، ﻭﺑﺪﺃﺕ ﺍﺳﻤﻊ ﻫﺘﺎﻓﺎﺗﻬﻢ ﻭﺻﺮﺍﺧﻬﻢ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺍﺗﺠﺎﻩ، ﺣﺘﻰ ﺭﺟﺎﻝ ﺍﻷﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﺘﻤﺎﻟﻜﻮﺍ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﻭﺑﺪأﻭا ﻳﻬﺘﻔﻮﻥ باسم ﺍﻟﺸﻬﻴﺪ ﻭ ﺑاﺳﻢ ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ، ﻭﺧﺮﺟﻮﺍ ﻋﻦ ﺃﻭﺍﻣﺮ المسئولين، ﻭﺭﻓﻌﻮﺍ ﺑﻨﺎﺩﻗﻬﻢ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺃﻃﻠﻘﻮﺍ ﺍﻟﻨﺎﺭ ﺑﻼ ﻭﻋﻲ ﺗﻜﺮﻳﻤﺎ ﻟﺮﻭﺡ ﻗﺎﺋﺪﻫﻢ. ﻫﻨﺎ ﺃﺩﺭﻛﺖ ﺗﻤﺎﻣﺎ - والكلام للواء سليمان - ﻣﺎﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﻨﻲ ﻋﺮﻓﺎﺕ ﻟﻠﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﻴﻦ، ﻭﻣﺎﺫﺍ ﻳﻌﻨﻲ ﺭﺣﻴﻠﻪ ﻋﻨﻬﻢ، ﻭﺃﺩﺭﻛﺖ ﺃﻳﻀﺎ، ﺑﺄﻥ ﻭﻓﺎﺗﻪ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻫﻲ ﻭﻻﺩﺗﻪ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ، ﻭﺳﻴﺒﻘﻰ ﺣﺎﺿﺮﺍ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻣﻬﻤﺎ ﻃﺎﻟﺖ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﺍﻟﻐﻴﺎﺏ.
منذ ولادته وحتى استشهاده، كأن فلسطين كانت على موعد مستمر معه ومع ذاتها، فقد حمل عرفات، في مسيرة حياته كلها فلسطين، وطنا وقضية، أملا وهما، حملها والتصق بها إلى درجة صار فيها الاسمان مترادفين لسنوات طويلة.
اليوم تحل الذكرى الـ 13 لاستشهاد عرفات، في زحمة الانشغال الفلسطيني بمرور مئة عام على وعد بلفور المشئوم، وهي الذكرى التي شكلت مناسبة الرجوع إلى بدايات الصراع والنبش على جذوره، لمراجعة المسيرة الوطنية، والكشف عن أسباب الضمور والقصور التي اعترتها وأفضت بها إلى واقعها الراهن. وبمعاينة سريعة، نلاحظ خطًا واصلا بين رفض الشعب الفلسطيني والعربي لوعد بلفور عام 1917، والكتاب الأبيض عام 1937، وقرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، رفض يستند إلى منطق عدم الاعتراف بحق أي شعب أو مجموعة سكانية أخرى، خلال الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، على الأرض الفلسطينية التي تمتد بين النهر والبحر.
13عام، علي استشهاد عرفات، في مستشفى بالعاصمة الفرنسية باريس، حيث كان يخضع للعلاج، وتبين بعدها أنه مات مسموما. ومنذ إعلان وفاته عام 2004، لا يعلم الفلسطينيون والمهتمون في العالم، من هو القاتل الحقيقي، ومن الذي خطط ورسم لاغتيال القائد، الذي يعتبر رمزا للثورة والأمل في التحرير.
ولد عرفات، في القدس في 4 أغسطس عام 1929، واسمه بالكامل محمد ياسر عبد الرؤوف داود سليمان عرفات القدوة الحسيني، وتلقى تعليمه في القاهرة، وشارك بصفته ضابط احتياط في الجيش المصري، في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر في 1956. شارك الراحل مع مجموعة من الوطنيين الفلسطينيين، في تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، في الخمسينات، وأصبح ناطقا رسميا باسمها في 1968، وانتخب رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في فبراير1969، بعد أن شغل المنصب قبل ذلك أحمد الشقيري، ويحيى حمودة. وألقى أبو عمار عام 1974 كلمة باسم الشعب الفلسطيني، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وحينها قال جملته الشهيرة "جئتكم حاملا بندقية الثائر بيد، وغصن زيتون باليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".
أرسى عرفات، تطبيق سياسة المقاومة المسلحة لتحرير فلسطين، وفي هذا الإطار قامت حركة "فتح" بسلسلة من الأعمال المسلحة ضد أهداف إسرائيلية، على حدود الأرض المحتلة مع الأردن، تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية، يعيش فيها جميع أهل فلسطين بمختلف دياناتهم وطوائفهم متساوين في الحقوق والواجبات.
وفي الأول من أكتوبر1985، نجا عرفات بأعجوبة من غارة إسرائيلية استهدفت منطقة "حمام الشط" بتونس، أدت إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى من الفلسطينيين والتونسيين، ومع حلول 1987 أخذت الأمور تنفرج وتنشط على أكثر من صعيد، فبعد أن تحققت المصالحة بين القوى السياسية الفلسطينية المتخاصمة، في جلسة توحيدية للمجلس الوطني الفلسطيني، أخذ عرفات، يقود حروبا على جبهات عدة، فكان يدعم الصمود الأسطوري لمخيمات الفلسطينيين في لبنان، ويتابع ويوجه انتفاضة الحجارة، التي اندلعت في فلسطين ضد الاحتلال عام 1987، ويخوض المعارك السياسية على المستوى الدولي، من أجل تعزيز الاعتراف بقضية الفلسطينيين وعدالة تطلعاتهم.
وعقب إعلان استقلال فلسطين، في الجزائر في الخامس عشر من نوفمبر عام 1988، أطلق في الثالث عشر والرابع عشر من نفس العام، في الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة السلام الفلسطينية لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط، حيث انتقلت الجمعية العامة وقتها إلى جنيف، بسبب رفض الولايات المتحدة منحه تأشيرة سفر إلى نيويورك، وأسست هذه المبادرة لقرار الإدارة الأمريكية برئاسة رونالد ريجان في الـ 16 من الشهر ذاته، والقاضي بالشروع في إجراء حوار مع منظمه التحرير الفلسطينية. وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في 2000، نتيجة التعنت الإسرائيلي وحرص عرفات، على عدم التفريط بالحقوق الفلسطينية والمساس بثوابتها، اندلعت انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من سبتمبر 2000، وحاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلية عرفات في مقره، بذريعة اتهامه بقيادة الانتفاضة، واجتاحت عدة مدن في عملية سميت بـ "السور الواقي"، وأبقت الحصار مطبقا عليه، في حيز ضيق يفتقر للشروط الدنيا للحياة الآدمية.
رحل عرفات، في ظروف استشهاد لا تزال غامضة، والتحقيق الذي تجريه لجنة وطنية مكلفة بهذا الشأن لا زال جاريا، رغم الإعلان في أكثر من مناسبة، أن وفاة الرئيس عرفات، لم تكن طبيعية، بل نتيجة مادة سامة، دست له في فترة الحصار الذي فرض عليه. وكان رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، قد أعلن من قبل، أنه يعرف من أقدم على اغتيال عرفات، حيث قال مخاطبا الحضور، في كلمته بالمهرجان المركزي لإحياء الذكرى الثانية عشرة لاستشهاد عرفات، في مقر الرئاسة برام الله، " لو سألتموني، أنا أعرف من فعل ذلك، لكن لا تكفي شهادتي، ولتستمر لجنة التحقيق وتثبت معرفة السبب، وفي أقرب فرصة ستعلن النتيجة وستندهشون من الفاعلين".
أطلق عرفات ورفاقه، في حركة "فتح"، والفصائل الفلسطينية الأخرى، الرصاصة الأولى في مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي حولت الفلسطينيين من مجموعة لاجئين، إلى شعب ثائر يفرض قضيته على العالم. تلك الرصاصة، هي التي أنقذت الهوية الفلسطينية، من مهاوي الضياع والتبديد، ثم أعادت تشكيل الكينونة الوطنية وصياغة إطارها الجامع المتمثل بمنظمة التحرير الفلسطينية. لقد التف الشعب الفلسطيني، الذي شتتته النكبة، في مختلف بقاع الأرض، حول البندقية التي أشرعها عرفات ورفاقه، من رواد العمل الوطني وصناع الثورة الفلسطينية المعاصرة. درب عرفات ورفاقه، الذي أعاد الفلسطينيين إلى قائمة الشعوب، وأعاد فلسطين إلى خريطة العالم، وهو كما وصفه محمود درويش في هذا السياق، أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة، إلى فكرة الدولة، وإن كان لم ينتصر في المعارك العسكرية، لا في الوطن ولا في الشتات، كما يقول، لكنه انتصر في معركة الدفاع عن الوجود الوطني، ووضع المسألة الفلسطينية على الخارطة السياسية الإقليمية والدولية، وصارت كوفيته، هي الدليل المعنوي والسياسي إلى فلسطين.
لمزيد من مقالات ابراهيم النجار; رابط دائم: