الحكايات زمان زي المزيكا ، كل حكاية تشبه لحن من الألحان ، أحدهم شجي وحزين والأخر مبهج ومفرح وثالث محير وغامض ، وفي النهاية لكل لحن طعم ومذاق ويترك في النفس أثراً مميزاً ، وكذا كل وثيقة وورقة قديمة تترك أثراً وتدعو الي التفكر والبحث والتدبر .. بعضها ينقل اليك حالة من السعادة بمجرد الإطلاع علي الوثيقة والبعض الأخر يصدر اليك الحزن علي ما آل اليه الحال مقارنة بالماضي .
وثيقة تصدر البهجة والسعادة
.......................................
والورقة التي أعرضها هذا الأسبوع هي وثيقة مكتوبة باللغة الفرنسية الرفيعة وبخط منمق وجميل وبجانبها ترجمة بالعربية وهي وثيقة تصدر البهجة والسعادة وهي هدية تلقيتها من الصديق موفق بيومي عاشق الوثائق والأوراق القديمة وهي ورقة موسيقية جميلة ولها رنين وجرس ، فهي تتعلق بالفنون والموسيقي وهي عبارة عن ترجمة مذكرة مرسلة من نظارة الأشغال العمومية الي مجلس النظار بتاريخ ٩ يناير ١٨٨٩تقول : قد قرر المجلس في عام ١٨٨٧ أن يعفي الموسيو “ أنريكو سانتيني “ مؤجر تياترو وحديقة الأزبكية من أجرة ذلك التياترو في العام المذكور وقدرها ٤٥٠٠ فرنك وذلك نظراً لما يتحمله من المشاق لإرضاء من يطيب لديهم حضور تشخيص الروايات في القاهرة ولاسيما في أيام الصيف الحارة مع ما تجلبه موسيقي جيش الإحتلال وموسيقي الجيش المصري علي ذلك التياترو لكونهما تعزفان في الحديقة المذكورة ، ومع كون الحكومة لا تساعده بشئ كما تساعد غيره من أصحاب الإمتياز في تياترو الأوبرا الخديوية فتعيرهم ذلك التياترو والملبوسات التي فيه مجاناً . والآن وقد إلتمس المسيو “ سانتيني “ المذكور أن يُعفي من أجرة تياترو الأزبكية عن العام الماضي ١٨٨٨ ، أما لجنة التياترات فبحثت في إلتماسه وإهتمت في إتخاذ الطريقة المؤدية الي إستمرار تشغيل التياترو المذكور في المستقبل عند إنقضاء مدة إمتياز المسيو المحكي عنه أي في ٣٠ يونية الأتي فقررت الرأيين المرسل من طيه صورة منهما وهما : أولاً أن لا يؤخذ من المسيو “ سانتيني “ إلا الفا فرنك أجرة التياترو عن سنة ١٨٨٨ وعلي هذه الأجرة يستمر الدفع الي إنقضاء مدة الإمتياز المذكورة أنفاً .. ثانياً : أن يعطي المسيو المذكور إمتيازاً أخر مدته خمس سنين إبتداء من ٣٠ يونيو ١٨٨٩ ( وهو اليوم الذي تنقضي فيه مدة إمتيازه الحالي ) الي أول يونية ١٨٩٤ بأجرة سنوية قدرها ألفا فرنك تدفع مقدماً .
أما هذه النظارة فقد إستحسنت الرأيين المذكورين وهاهي تعرض هذه المسألة علي المجلس للنظر فيها وإصدار قراره بما يستصوب منها . الإمضاء محمد زكي باشا ناظر الأشغال العمومية مع صورة مرسلة طبق الأصل ل “ فريد بابازوغلي “ رئيس قسم إدارة التياترات .
من هذه الوثيقة نتبين أن الحكومة المصرية قد قامت بتأجير مسرح الأزبكية لمواطن من رعايا دولة إيطاليا هو “ سانتيني “ ليقيم عليه عروض موسيقية وفنية لإمتاع محبي الفنون من سكان المحروسة والمهتمين وخاصة في فصل الصيف الذي يفضل فيه القاهريون الخروج للحدائق للتنزه في المساء والإستماع للموسيقي ومشاهدة الروايات في الأوبرا لعلية القوم والتياترو للطبقة المتوسطة والطلبة ، وقد تعذر الإيطالي في سداد الإيجار في عام ١٨٨٧ وقدرة ٤٥٠٠ فرنك وتعطلت فرقته بسبب إرتفاع تكلفة العروض ووجود عروض الجيش والشرطة بجوارة في الحديقة مما يسحب منه الرواد الذين يفضلون العروض المجانية ، كما أنه لا يتلقي أي مساعدات من الحكومة كالتي يتلقاها مسرح الأوبرا الخديوية والتي تساعده في المصاريف ، لذا فقد وجد نفسه يتحمل مسئوليته كاملة عن كل مصاريف التياترو من عروض وملابس وأبطال فطلب إعفائه من الدفع عام ١٨٨٧ ووافقت الحكومة وهو يكرر طلبه مرة أخري أو يبحث عن أي نوع من الدعم الحكومي ، فرفع مظلمته بهذا الشأن .
فما كان من نظارة الأشغال إلا أن بحثت طلبه وتوصلت الي حل هو قيام “ سانتيني “ بدفع مبلغ ٢٠٠٠ ( الفين ) فرنك أجرة التياترو عام ١٨٨٨ أي أقل من نصف ما تم الإتفاق عليه في التعاقد وهو ٤٥٠٠ فرنك في العام ومد أجل الإمتياز لمدة خمس سنوات بنفس المبلغ .. و أعتقد أنه تم الموافقة عي هذا الإقتراح لما فيه من مرونة وتعاون من أجل إستمرار العروض الموسيقية والفنية للإيطالي ومسرحه .
بقي أن أقول أن تياترو الأزبكية أمر بإنشائه الخديو المستنير إسماعيل حفيد محمد علي والذي كان يعشق الفنون وكان يريد تحويل المحروسة الي جزء من أوروبا بعمارتها وثقافتها وفنونها وموسيقاها فأمر بإنشاء التياترو والأوبرا الخديوية بتصميم وتنفيذ المهندسين الإيطاليين كما إستعان بالمهندس الفرنسي الذي صمم حدائق التيوليري في باريس لتصميم حديقة الأزبكية، بعد ردم بركته
،، وقد بدأ العمل في إنشاء التياترو في في ٢٢ نوفمبر ١٨٦٧ وافتتح في ٤ يناير ١٨٦٨ تحت إدارة الخواجة منسي.
وقد ظل مسرح الأزبكية يحمل اسم «تياترو حديقة الأزبكية» إشارة إلى الإسم الإيطالي الدال على المسرح الذي ظل على مدى نصف قرن، مكانا مفضلا للفرق المسرحية الزائرة التي كان أكثرها أجنبيا، بالرغم من وجود فرق عربية قدّمت عروضها عليه، وكان سر كثرة العروض الأجنبية راجعاً إلى تزايد هجرة الأجانب إلى مصر، خصوصا من فرنسا وإيطاليا واليونان، فضلا عن إنجلترا التي أصبح جيشها يحتل مصر منذ ١٨٨٢. وقد ظل تياترو الأزبكية معلماً فنياً أساسياً من معالم القاهرة حتي بعد قيام ثورة يوليو ١٩٥٢وفي عام ١٩٥٨ تغير اسم المسرح على اسم «المسرح القومي» .
والله الله علي مصر ومسارحها وفنونها زمان .
رابط دائم: