بعد سحب الجيش الأمريكي للكثير من القوات، من العراق وأفغانستان، فإن الأمريكيين معذورون لعدم علمهم بأن التواجد الأمريكي ما زال متفشيا، عن طريق مئات من القواعد العسكرية، ومئات الآلاف من القوات المتمركزة فيها. لا يدرك الكثيرون هذا، لكن الولايات المتحدة، تستعمر الكوكب كما لم تفعل أي دولة أخرى في التاريخ، والدلائل على ذلك واضحة للعيان، من الهندوراس إلى عُمان، اليابان إلى ألمانيا، سنغافورة إلى جيبوتي. مثل معظم الأمريكيين، نادرا ما يفكر معظم الناس خارج أمريكا، في أمر القواعد العسكرية الخارجية. علي حد قول الباحث ومستشار CIA السابق، تشالمرز جونسون، بخلاف الآخرين، لا يدرك الأمريكيون – أو لا يريدون أن يدركوا – أن الولايات المتحدة، تسيطر على العالم باستخدام قوتها العسكرية، لاعتبارات السرية الحكومية، يجهل مواطنونا غالبا هذه الحقيقة: حامياتنا العسكرية تطوق الكوكب بأسره.
لا توجد قواعد عسكرية أجنبية دائمة على أرض الولايات المتحدة، الفكرة نفسها مرفوضة تماما، في المقابل هناك حاليا 800 قاعدة عسكرية أمريكية في الدول الأجنبية. بعد 70 عاما من الحرب العالمية الثانية، و62 عاما من الحرب الكورية، لا تزال هناك 174 قاعدة عسكرية أمريكية في ألمانيا، 113 قاعدة في اليابان، و83 في كوريا الجنوبية، طبقا للبنتاجون.
تتواجد مئات القواعد الأخرى حول العالم في أكثر من 80 دولة. في أوروبا وأستراليا، في البحرين وبلغاريا، في كولومبيا، في كينيا، في قطر، تمتلك الولايات المتحدة، قواعد أجنبية أكثر من أي شعب أو دولة أو إمبراطورية في التاريخ. الغريب حقا أن الإعلام الأمريكي قلما يعلق على الأمر، أو يجري أي تقارير أو تحقيقات حوله. لكن هل وجود هذه القواعد العسكرية ضروري من الأساس أم لا؟ وما جدوى هذه القواعد من الأصل؟ علما بأن ميزانيتها تقدر بحوالي 156 مليار دولار أو أكثر. أمريكا الآن، كما كانت على مدار العقود السبعة الماضية، دولة قواعد استعمارية، تتمدد حول العالم، وقد تأخرنا كثيرا في مواجهة هذه الحقيقة بالأسئلة.
تأتي القواعد الأمريكية بكل الأشكال والأحجام، بعضها بحجم مدن كاملة، "ولايات متحدة صغيرة"، منها قاعدة "رامشتاين" الجوية في ألمانيا، وقاعدة "كادينا" الجوية، في أوكيناوا، والقاعدة البحرية والجوية المغمورة المقامة على جزيرة دييجو جارسيا في المحيط الهندي، تتمتع كل من هذه ببنية تحتية هائلة، من مدارس ومستشفيات ومحطات طاقة، أما القواعد الأصغر فمنها ما يسمى بالوسائد، والتي تعرف أيضا بالمواقع الأمنية التعاونية، تمثّل هذه محطات لاستقبال طائرات الدرونز، وطائرات الاستطلاع، وتحوي بعضا من الإمدادات والأسلحة، يكثر تواجدها في أفريقيا وأوروبا الشرقية.
صحيح أن الولايات المتحدة، ليست الدولة الوحيدة التي تمتلك قواعد عسكرية خارجية، فبريطانيا العظمى، ما زالت تمتلك سبعا منها، وفرنسا تمتلك خمسا في مستعمراتها السابقة. روسيا لديها حوالي ثمان في أراضي الاتحاد السوفييتي سابقا، وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، أصبح لليابان قاعدة عسكرية في جيبوتي في القرن الأفريقي، بجانب قواعد أمريكا وفرنسا هناك.
دول أخرى مثل كوريا الجنوبية، الهند، تشيلي، تركيا وإسرائيل، لدى كل منها على الأقل قاعدة واحدة، لكن عدد هذه القواعد مجتمعة لا يتجاوز الثلاثين قاعدة، ما يعني أن الولايات المتحدة، تستحوذ على 95%، من حصة القواعد العسكرية الخارجية في العالم.
على الرغم من أن الولايات المتحدة، قد امتلكت قواعد عسكرية خارجية، منذ ما بعد الاستقلال بقليل، فإنه لم يكن متخيلا أن الأمر سيصل إلى الشبكة العملاقة من التواجد العسكري، القائمة الآن، حتى اشتعال الحرب العالمية الثانية. في 1940، وبجرة قلم، وقع الرئيس فرانكلين روزفلت، اتفاقية "المدمرات مقابل القواعد"، مع بريطانيا العظمى، والتي أعطت الولايات المتحدة، حقوق انتفاع تدوم لتسعة وتسعين عاما، لبناء منشآتها على أراضي المستعمرات البريطانية حول العالم، وبحلول نهاية الحرب، كان للولايات المتحدة أكثر من ألفي موقع عسكري عالمي. خمسة أعوام كانت كافية لتنشئ الولايات المتحدة، شبكتها الهائلة من القواعد العسكرية على أرض الإمبراطورية البريطانية التي "لا تغيب عنها الشمس".
منذ بداية الحرب الباردة، أصبحت فكرة امتلاك مجموعة كبيرة من القواعد العسكرية الدائمة جزءا شبه مقدس من السياسة الأمنية الوطنية والخارجية، يرجع ذلك إلى الفكرة ذات السبعين عاما التي تدعم هذا الاعتقاد، والتي تسمى بـ "إستراتيجية التقدم إلى الأمام". تقضي هذه الإستراتيجية، بأن الولايات المتحدة، يجب أن تحتفظ بتكتلات هائلة من القوات العسكرية على مقربة من أراضي الاتحاد السوفييتي، لاحتواء نزعة الاتحاد إلى التوسع. غير أن انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يؤثر على هذه الفكرة، وقد بدأ تشالمرز جونسون، بالقلق حول القواعد الأجنبية حين لاحظ أن اختفاء الاتحاد، لم يغير كثيرا من هيكل شبكة القواعد الخارجية، على الرغم من اختفاء العدو الذي أوجدت هذه القواعد لاحتوائه.
هناك العديد من التحديات التي تواجه القواعد الخارجية، لعل من أبرزها التكلفة الاقتصادية، فهي مكلفة للغاية، طبقا لشركة "راند للأبحاث"، فإن دافعي الضرائب الأمريكيين ينفقون من 10 آلاف إلى 40 ألف دولار إضافية سنويا، لتسكين فرد واحد من الجيش خارج الولايات المتحدة بدلا من داخلها، حتى عندما تتحمل الدول المضيفة مثل اليابان وألمانيا، بعضا من النفقات. تكاليف الانتقال والمعيشة، والمدارس والمستشفيات والإسكان، تجعل الأمر مكلفا حقا، خاصة وأن العدد يبلغ أكثر من نصف مليون من الجنود، وأفراد عائلاتهم، والموظفين المدنيين.
في نفس الوقت، لا ترى الكثير من المجتمعات المضيفة شيئا من النعيم الاقتصادي الذي يعد به المسئولون الأمريكيون والمحليون جراء إقامة هذه القواعد. ربما يشهد الاقتصاد انتعاشا على المدى القصير، لكن على المدى الطويل، فإن أشكالا أخرى من النشاط الاقتصادي، مثل المدارس والمستشفيات والأسواق، تعد أكثر إفادة للاقتصاد المحلي، القواعد العسكرية هي استخدام غير منتج للأرض، يوفر عددا قليلا من الوظائف نسبة إلى تكلفته، ولا يساهم كثيرا في دعم الاقتصاد المحلي.
ما هو أفدح من التكلفة الاقتصادية، هي التكلفة البشرية، من ضمن هؤلاء الذين يعانون هم عائلات الجنود، حيث يتنقلون كثيرا، ويبتعدون عن الوطن، ويتعرضون غالبا للانفصال. أسهمت القواعد الخارجية أيضا، في المعدلات الصادمة للاعتداء الجنسي في الجيش، حوالي 30% من النساء العاملات في الجيش، يتعرضن للاعتداء خلال عملهن. أما على المستوى البيئي، فقد تسببت القواعد، في العديد من تسريبات المواد السامة، وفي بعض الأحيان الإلقاء العمدي للمخلفات في البيئة المحيطة.
وفي تناقض واضح مع الخطاب الرسمي الداعي لنشر الديمقراطية، فإن الولايات المتحدة، تنشئ قواعدها في أماكن غير ديمقراطية، ومستبدة في أغلب الأحيان، مثل قطر والبحرين. أمّا في العراق، أفغانستان والسعودية، فإن التواجد الأمريكي، خلق أرضا خصبة لتربية مشاعر العنصرية والمعاداة لأمريكا. فتواجدها بالقرب من المقدسات الإسلامية في السعودية، كان أحد أدوات "القاعدة" لتجنيد الشباب، بل وحافزا لهجمات 11 سبتمبر.
فقد جعلت القواعد، من شن الحروب أمرا سهلا، ما جعل من التدخل العسكري حلا مغريا – والحل الوحيد الممكن تخيله في كثير من الأحيان– لصانعي السياسة الأمريكية، وكما تقول عالمة الأنثروبولوجيا، كاثرين لوتز، فإنه عندما يكون كل ما في جعبة السياسة الخارجية، لديك هو مطرقة، فإن كل شيء يبدو لك كمسمار. لقد زادت القواعد الخارجية، من احتمالات وقوع الحرب بدلا من تقليلها. وبالمثل، فإن القواعد العسكرية، لا تساهم في استقرار الأوضاع في مناطق النزاع، بل تزيد من حدة التوترات العسكرية وتثبط من الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة. جدير بالذكر أن أخطر لحظات الحرب الباردة – أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962– والتي تمحورت حول منصات إطلاق الصواريخ النووية السوفييتية في كوبا، التي تبعد 90 ميلا عن حدود الولايات المتحدة.
كثرة القواعد الأمريكية الخارجية، قد تدفع إلى سباق دولي لإنشاء القواعد الخارجية، لتبدأ حرب باردة جديدة. كما يمكن لهذه القواعد، إثارة التوترات وزيادة احتمالات نشوب الحرب. هذه القواعد نبوءة ذاتية التحقق، تصنع نفس الخطر الذي أنشئت من أجل محاربته. القواعد الأمريكية هي نافذة على التأثير العسكري لأمريكا في العالم، وفي حياتنا جميعا. لقد جعلتنا نعيش جميعا، في العقود السبعة الماضية "خلف الأسلاك الشائكة"، كما يقول رجال الجيش. ربما نظن أن هذه القواعد، تسهم في عملية السلام، لكنها في الواقع، تحبسنا داخل مجتمع عسكري، يجعل كل من في الكوكب أقل أمنا، ويضر بحياته داخل وطنه وخارجه.
لمزيد من مقالات ابراهيم النجار; رابط دائم: