لنوبار باشا جملة شهيرة هي :
( بموت محمد على ، إختفت العبقرية التى كانت توجه مصر، فقد كانت مصر هى « محمد على « و كان كل شئ فى مصر يحمل بصماته ، حتى التربة و النيل ) . وللدلالة علي جمال المحروسة يتندر المصريون قائلين “ إن اللي بني مصر كان في الأصل حلواني “ ولكن الحقيقة أن بانى مصر الحديثة و صاحب الفضل فى نهضتها هو فى الأصل دخاخنى .. فمحمد على باشا هو ذلك الجندى الألبانى الذى ولد فى « قولة « بمقدونيا عام ١٧٦٩ من أبوين فقيرين ،
وأبوه « إبراهيم أغا « كان شيخ الحراس ( غفير) و كان له ١٧ ولد لم يعش منهم سوى محمد على الذى قست عليه الظروف فمات أبواه وتولى عمه « طوسون « رعايته و لكنة سرعان ما مات هو الآخر فساقت له الأقدار قلباً رحيماً هو « الشوربجى « حاكم بلدته الذى تولى تربيته وزوجه قريبة له كانت لها ثروة كبيرة إستغلها فى تجارة الدخان .
هذه المقدمة كانت ضرورية لإن حكاية هذا الأسبوع عن صورة ملونة نادرة وقعت في يدي للباشا الدخاخني وهو يستقبل مجموعة من قناصل الدول الأجنبية داخل قصر رأس التين ، و هذه الصورة التي رسمها ديفيد روبرتس في مايو ١٩٣٩ تحمل إشارات بليغة عن الرجل الألباني الأصل ، المصري الهوي والهوية وتدل علي قوته وثقته بنفسه وإحترام القناصل له ، فالباشا ذو اللحية البيضاء يدخن أرجيلته وهو يجلس متربعاً علي أريكة تطل علي البحر وتبدو من النافذة الضخمة صواري السفن ، وبجانبه يجلس عدد من قناصل الدول الأجنبية يعرضون أوراقاً عليه وفي المكان الذي يبدو أنه قاعة من قاعات القصر عدد من رجال الباشا بملابسهم الشرقية وسيوفهم وعلي الأرض يجلس كاتب يدون ما يدور في اللقاء .. وتُعتبر هذه اللوحة من أندر لوحات الرسام الإسكتلندي ديفيد روبرتس الذي إشتهر بمجموعة لوحات عن مصر والشرق الأدني . و لكن كيف وصل محمد الي هذه الأريكة وهذا المقام داخل القصر ،، بداية الحكاية كانت حينما إنخرط فى سلك الجيش العثمانى الذى ذهب الى مصر لمقاومة خطر الحملة الفرنسية، و منذ وصوله إشتد عزمه على الا يغادر مصر أبداً و بدأ فى رسم الخطط التى تمكنه من البقاء تارة بالتعاون مع المماليك و آخرى بالإنقلاب عليهم و ثالثه بالتقرب من المصريين و شيوخهم البارزين أمثال عمر مكرم ، وكانت النتيجة أن نجح في مسعاه مما دعا زعماء الشعب الى الذهاب الى داره فى مايو ١٨٠٥ و طلبوا منه أن يكون والياً عليهم بشروطهم ، فأظهر محمد على شيئاً من الإمتناع ، ثم عاد فقبل ، فنهض السيد عمر مكرم و الشيخ الشرقاوى و البساه « الكرك و القفطان « - وقد كانت هذه هى شارة الولاية فى ذلك الوقت .
و رغم أن محمد على كان أمياً إلا أنه فتح أبواب المدنية و التقدم أمام البلاد ، و كانت من أهم إنجازاته تكوين الجيش و بناء القوة البحرية والقيام بالعديد من الإصلاحات فى مجال الزراعه و الرى و الصناعة و التجارة ، و أوفد البعثات العلمية الى الخارج ، و قام بالعديد من الفتوحات .
و فى النهاية إستكان محمد على فى قصره بالقلعة بعد ما أصابه من وهن نفسى و جسمانى ، وترك زمام الحكم لحفيده عباس باشا لحين عودة إبراهيم باشا إبنه من رحلة علاجه في أوروبا و لم يلبث أن عاد إبراهيم باشا الى مصر و صدر فرمان بتوليه العرش فى يوليه ١٨٤٨ و لكن المرض لم يمهله كثيراً وتوفى فى نوفمبر من نفس العام و بعدها إنتقل حكم مصر الى عباس باشا .
أما محمد على فقد إنزوى فى قصر رأس التين يسترجع ذكريات مجده و يقاسى أمراض الشيخوخة حتى وافته المنية فى٢ أغسطس ١٨٤٩ و نقل جثمانه الى القاهرة حيث دفن بمسجده الشهير بالقلعة .
و المتتبع لتاريخ محمد على سيجد أن حياته كان فيها الكثير من الأحداث فتارة هو الوالى الرحيم الذي يأمر بتوزيع الأراضى على الفلاحين و آخرى هو الجزار السفاح كما حدث فى مذبحة المماليك .
و لكن الشئ الذى أجمع عليه المؤرخون أنه بوفاته إنتهت حياة عظيم من عظماء الشرق
و قبل أن أختم حديثى عن الباشا الدخاخنى سوف أقص عليكم قصة عثُرت عليها بالمصادفة فى كتاب نادر هو « إسماعيل المفترى عليه “ للقاضي بيتر كرابيتس و فيها يقول: ( أن والد فرديناند ديليسبس و إسمة « ماتيو « كان سياسياً فرنسياً عينته الحكومة الفرنسية قنصلاً لها فى القاهرة على أثر معاهدة « أميان١٨٠٢ « .
و كان محمد على آنذاك ضابطاً صغيرا فى الجيش التركى و لسبب ما دعاه القنصل الى مأدبة أقيمت فى القنصلية الفرنسية .
و فى صباح اليوم التالى ظهر أن أحد الضيوف سرق بعض الشوكات و الملاعق الفضية ، و إتجهت الشبهات الى ذلك الضابط الألبانى لا لسبب سوى أنه كان أحقر المدعوين منظراً و لأن بعضهم زعم أن سراويله الواسعة كانت تصلح لإخفاء المسروقات .
و كاد العار أن يلصق به لولا البحث الذى قام به القنصل الفرنسى و ثبت من خلاله براءته . و كانت نتيجة ذلك أن القنصل زار الضابط محمد على و قدم له إجلاله و إحترامه .
و دار الزمن دورته و أصبح محمد على هو الحاكم ، فلم ينس تلك الحادثة بل أشار اليها علناً عندما زاره قناصل الدول و على رأسهم عميدهم « ديليسبس « ليهنئوه بالنصر الذى أحرزه إبراهيم باشا إبنه فى حروبه فى الشام ) و يقال أن من أثر هذه الحادثة أن قويت العلاقات بين محمد على و القنصل الفرنسى الى الحد الذى دفع القنصل الفرنسى الى تعضيد موقف محمد على لدى الباب العالى عند إختياره والياً على مصر . رحم الله محمد علي الذي تمر الذكري ال ١٦٨ علي وفاته .. والله الله علي مصر زمان
[email protected]
رابط دائم: