رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ثلاث سنوات على نظام السيسى

يثير منظرو العلوم السياسية وأساتذة النظم المقارنة عددا من الأسس التي يستند إليها أي نظام سياسي في تأكيد شرعيته، حيث تتعدد في هذا الإطار المفاهيم الحاكمة للعلاقة بين النظام والمجتمع، وذلك بدءا من صندوق الانتخابات الذي يمثل «الفيصل» بين المتنافسين على السلطة بمشروعاتهم السياسية المختلفة،وانتهاء بطبيعة «العقد الاجتماعي» بين الدولة والمجتمع، ومرورا بعدد من المفاهيم الأخرى ذات الصلة مثل «شرعية الإنجاز»، حيث يطرح البعض هنا أن مصدر الشرعية الحقيقية لأي نظام سياسي هوحجم الانجازات التي يحققها على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. والواقع أنه لا توجد تناقضات كبيرة بين هذه المفاهيم الثلاثة، فلكل منها السياق الذي يجب أن تُفهم في إطاره؛فأي من مفهومي طبيعة «العقد الاجتماعي»، أو شرعية «الإنجاز» لا ينفي «شرعية الصندوق»، فالأخير يمثل في الحقيقية نقطة البداية أو مرحلة التأسيس للنظام في حالة الدول التي تأخذ بآليات المنافسة الديمقراطية، وهو أداة الفصل بين المشروعات السياسية المتنافسة حول المستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد، ولكنه لا يضمن استمرار تمتع النظام بالشرعية طوال فترة بقائه. ويفسر ذلك سقوط أنظمة سياسية عديدة قبل انتهاء مدتها القانونية رغم وصولها للسلطة عبر صندوق الانتخابات، كما يفسر سقوط أنظمة أخرى في أول انتخابات جديدة تجرى بعد وصول النظام للسلطة. ويمثل انهيار نظام «الإخوان المسلمين»في مصر بعد عام واحد من وصولهم إلى السلطة من خلال ثورة شعبية ضده في يونيو 2013 نموذجا مصريا مهما في هذا المجال،وذلك رغم الحديث المتكرر من جانب «الإخوان»عن وصول نظامهم للسلطة من خلال «صندوق الانتخابات»، بل ومبالغتهم في استخدام تعبير «الشرعية»، وتعبير «أول رئيس مدني منتخب» في وصفهم لمحمد مرسي،وذلك في محاوله يائسة لتبرير بقاء النظام والدفاع عنه.

وتنصرف شرعية «الإنجاز»،كما سبق القول، إلى قياس درجة شرعية النظام بحجم الإنجازات التي حققها خلال فترة محددة، حيث تحظى الانجازات ذات الصلة بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالاهتمام الأكبر في هذا السياق. أما «العقد الاجتماعي»، فهو مفهوم أكثر تعقيدا يتعلق بطبيعة «الصفقة» القائمة بين الدولة، ممثلة في النظام أو عدد من الأنظمة السياسية المتعاقبة، من ناحية، والمجتمع بقواه السياسية والاجتماعية المختلفة، من ناحية أخرى. ومن ثم، فهو «عقد» قد ينشأ لعدة عقود زمنية تغطي عددا من الأنظمة السياسية المتعاقبة. وعلى سبيل المثال، يمكن القول إن العقد الاجتماعي الذي تأسس بين المجتمع ودولة يوليو 1952، بدءا من مرحلة عبد الناصر،قام على «تأميم» الحياة السياسية والحزبية، مقابل قيام النظام بمشروع إعادة توزيع الثروات الاقتصادية، والتزام الدولة التزاما كاملا تقريبا بالإنتاج والتوظيف، أضيف إليه لاحقا مقاومة العدوان الخارجي وتحرير الأرض المحتلة. وخلال مرحلة السادات، استمر هذا العقد قائما على قبول المجتمع بتأميم الحياة السياسية وتأجيل عملية التحول الديمقراطي، مقابل عمل النظام على تحرير الأرض المحتلة، مع إدخال بعض التعديلات على تلك الصيغة بعد استعادة سيناء عقب حرب أكتوبر 1973. شملت هذه التعديلات إدخال بعض التغييرات علىالحياة السياسية،حيث تم الانتقال من صيغة التنظيم السياسي الواحد إلى صيغة التعددية الحزبية المقيدة. كما استمر التزام الدولة بالإنتاج والتوظيف.

ولم تشهد مرحلة مبارك تحولات جوهرية في صيغة العقد الاجتماعي المفروض من جانب الدولة آنذاك، حيث استمر تأجيل المنافسة السياسية على قمة السلطة السياسية، مقابل تخفيف القيود المفروضة على الحياة السياسية والعمل العام،واستمرار التزام الدولة بتوفيز حزمة ضخمة من الدعم لمحدودي الدخل. ورغم اضطرار النظام إلى إدخال بعض التغييرات خلال سنواته الأخيرة، شملت القبول بمنافسة شكلية على قمة السلطة، والتوسع في عمليات انسحاب الدولة من المجال الاقتصادي، إلا أنه لجأ إلى تأمين دعم نخبة رجال الأعمال، من خلال آليات عدة شملت تدشين حالة من «التزاوج» بين السلطة ورأس المال وتوسيع حجم نفوذ رجال الأعمال في عملية صنع القرار الاقتصادي، والقرار السياسي إلى حد كبير (دور رجال الأعمال داخل الحكومات المصرية وتشكيل مجلس الشعب)، فضلا عن توسع النظام في إغداق المنح والامتيازات على النخبة الاقتصادية من خلال توزيع الأراضي وغيرها. واقتصر الالتزام تجاه الشرائح الاجتماعية الأفقر على استمرار الالتزام بمظلة الحماية الاجتماعية الواسعة.

هذه الصيغ من العقد الاجتماعي لم تكن صيغا معلنة بالضرورة،أو موضوع تفاوض بين الدولة والمجتمع أو القوى الاجتماعية،أو معبرا عنها في صيغ محددة، بقدر ما كانت صيغا مفروضة كأمر واقع من جانب النظام، قبلها المجتمع مضطرا وبشكل ضمني تقريبا.

ما يهمنا أن كل اسس الشرعية، وصيغ العقد الاجتماعي السابقة، وما ارتبط بها من سياسات، انطوت على بعض المكاسب والأبعاد الإيجابية، بما في ذلك تعظيم مكاسب المجتمع والقوى الاجتماعية في مواجهة الدولة. لكن هذا لا ينفي التكاليف بعيدة المدى التي انطوت عليها هذه الصيغ وسياساتها. فمن ناحية، وعلى الرغم من الأبعاد الاجتماعية المهمة لمشروع إعادة توزيع الثروات داخل المجتمع خلال مرحلة عبد الناصر، من خلال قوانين الإصلاح الزراعي، ودورها المهم في نشر الثروة داخل المجتمع، إلا أنه لا يمكن إغفال الآثار السلبية لهذا المشروع فيمايتعلق بتفتيت الملكيات الزراعية على المدى البعيد، بفعل عاملي التوريث والأسر كبيرة الحجم في الريف المصري، الأمر الذي أضر في التحليل الأخير بحجم الحيازات وبإنتاجية الأراضي الزراعية، ثم تراجع أهميتها النسبية كمصدر للدخل وتراكم الثروة لدى الفلاح المصري. ومن ناحية ثانية، فقد نتج عن عملية الانفتاح السياسي المقيد خلال فترتي السادات ثم مبارك، وغض بصر النظام عن الجماعات الدينية والإسلام السياسي، نجاح هذه الجماعات في التمدد داخل المجتمع، وبناء شبكاتها الاجتماعية والاقتصادية على مدار عدة عقود، إلى الحد الذي هدد بتأسيس «نظام ديني» وسقوط الدولة الوطنية المصرية، على النحو الذي جسدته تجربة حكم الإسلاميين بعد ثورة يناير 2011. ومن ناحية ثالثة، فقد نتج عن التوسع المستمر في سياسات الحماية الاجتماعية خلال الأنظمة السابقة،اعتمادا على آليتي الدعم الاقتصادي والتوظيف الحكومي وغيرها، إلى تراكم حجم الأعباء الاقتصادية والمالية على الموازنات الحكومية، وتضخم حجم الجهاز الإداري للدولة، فضلا عن تكريس بناء ثقافة الاعتمادعلى الدولة، وإضعاف ثقافة المبادرة والمخاطرة الاقتصادية، فضلا عن تشوه نظام وآليات السوق والتسعير، ومن ثم الإضرار بآلية التخصيص الكفؤ للموارد الاقتصادية والمالية.

وهكذا، فقد نتج عن هذه السياسات التاريخية الثلاث، على سبيل المثال، والتي شكلت مصادر رئيسية لشرعية الأنظمة السياسية خلال الفترة (1952- 2011)وجزءا من العقد الاجتماعي- بشكل صريح أو ضمني- بين الدولة والمجتمع أو بين الدولة وبعض القوى السياسيةخلال تلك الفترة، إلى إنتاج ثلاث مشكلات كبيرة ورثها نظام السيسي.أولاها، مشكلة تفتت الملكيات والحيازات الزراعية بشكل أضر كثيرا بإنتاجية الأراضي الزراعية القديمة.ثانيتها، توغل الشبكات الاقتصادية والاجتماعية للإسلام السياسي،ثم انكشاف الوجه الحقيقي لهذه الشبكات وتحولها إلى شبكات أو تنظيمات إرهابية بعد فشل مشروعها في اختطاف الدولة المصرية بعد يناير 2011. وثالثتها، هو تضخم العجز في الميزانيات الحكومية، وهو الأمر الذي انكشف مع تراجع الزخم الثوري وتراجع معدلا النمو الاقتصادي بعد ثورتي يناير ويونيو. وبالطبع لا تمثل هذه المشكلات الثلاث حصرا لقائمةالمشكلات التي ورثها نظام السيسي، ولكنها تمثل أبرزها بالتأكيد.

وإزاء هذا الوضع، كان من الأيسر أن يكتفي نظام السيسي بمحاربة الإرهاب وجماعات الإسلام السياسي، باعتباره الاستحقاق الأهم والتهديد الأخطر عقب ثورة يونيو، مع الاستمرار في سياسات الحماية الاجتماعية ممثلة بالأساس في سياسات الدعم المالي واسع النطاق على نحو ما تواترت عليه الأنظمة السابقة، باعتبار ذلك هو الطريق الأسهل الذي يضمن الحفاظ على شرعية النظام وشعبيته، خاصة داخل الشرائح الاجتماعية دون العليا. لكن السيسي انحاز إلى مسار آخر وهو المواجهة الصريحة والجرئية للمشكلات والاختلالات التي ترتبت على السياسات التاريخية التي لجأت إليها الأنظمة السابقة في بناء شرعيتها وعقدها الاجتماعي والتي تجاهلت التأثيرات السلبية بعيدة المدى التي نتجت عن هذه السياسات.لقد كان السيسي واعيا بالتمييز بين المكاسب السريعة على المدى القصير نتيجة الاستمرار في السياسات»الرضائية» التقليدية، والتكلفة الاقتصادية للاستمرار في هذه السياسات على المدى البعيد. وبمعنى آخر، كان السيسي واعيا بالتمييز بين ما تقتضيه «المصلحة الوطنية» متمثلة في بناء اقتصاد «طبيعي»،مثل باقي الاقتصادات المتقدمة والناشئة في العالم، وخطورة اللجوء إلى بناء شرعية أو شعبية «هشة» على حساب المصلحة الوطنية في المرحلة الراهنة، بل وعلى حساب الأجيال القادمة. وفي هذا الإطار، عمد السيسي إلى إصلاح التشوهات الاقتصادية من خلال تصحيح العديد من السياسات المالية والنقدية، وعلى رأسها قرار تحرير سعر الصرف، والتي مثلت شرطا رئيسيا للقضاء على الفجوة الضخمة التي نشأت بين السعر الرسمي وأسعار السوق، وقرار التحريرالمتدرج لأسعار الطاقة والمحروقات، بشكل يؤد في النهاية إلى تصحيح تشوهات الأسعار القائمة.

صحيح أن هذه السياسات خلقت تكاليف على مختلف الطبقات، لكن لا توجد عملية إصلاح اقتصادي حقيقية بدون فواتير. هذه النقطة تثير تساؤلا مهما حول حدود مسئولية المجتمع في سياق مشروعات الإصلاح الاقتصادي. واقع الأمر إن خبرة المجتمع المصري مع هذا النوع من السياسات الإصلاحية مازالت تشير إلى وجود عدد من الإشكالات حول طريقة إدراك وتعامل الثقافة المصرية مع قضايا الإصلاح الاقتصادي.

الإشكال الأول، هو سيادة إدراك بأن «الإصلاح» هو مسئولية الدولة وأجهزتها الحكومية فقط. مشكلة هذا الإدراك الخطأ أنه يعفي المجتمع من مسئوليته، ومن ثم، فإن عملية الإصلاح -من وجهة نظر البعض-تبدو وكأنها سياسات ضد المجتمع من جانب الحكومة، أو هي تعبيرعن فشل الحكومة في اختيار برنامج الإصلاح المناسب لظروف المجتمع...إلخ من الفرضيات التي يحاول من خلالهاالبعض إعفاء المجتمعمن المسئولية ولا تجعل منه طرفا أصيلا في أي عملية إصلاح، الأمر الذي قد يؤثر سلبا على تلك العملية.

الإشكال الثاني،ويرتبط بالإشكال السابق، هو وجود إدراك، لدى كثيرين، بعدم عدالة توزيع الأعباء والفواتير الخاصة بعملية الإصلاح، وأن الفواتير يتم دفعها بواسطة الطبقات والشرائح الاجتماعية الأكثر فقرا.

الإشكال الثالث،أنه غالبا ما يتم إدراك «الإصلاح» على أنه أقرب إلى كونه قرارا أو مجموعة من القرارات الحكومية، وليست «عملية» process تستغرق وقتا، قد يصل إلى بضعة سنوات، حتى تؤتي آثارها ونتائجها في سياق عملية التفاعل بين مكونات المنظومة الاقتصادية وبين مختلف الفاعلين الاقتصاديين. مشكلة هذا الإدراك الخطأ أنه يؤدي إلى استعجال تحقق نتائج عملية الإصلاح، ومن ثم سرعة إصدار أحكام سلبية على نتائج تلك العملية.

الإشكال الرابع، هو اتجاه بعض القوى والتيارات السياسية إلى «تسييس» عملية الإصلاح، من خلال تحميل الموقف من تلك العملية على مواقف هذه القوى من النظام السياسي. وتقدم قرارات الإصلاح الاقتصادي الأخيرة نموذجا مهما في هذا المجال، حيث بنت بعض القوى السياسية موقفها من قرارات الإصلاح الاقتصادي بناء على موقفها من النظام السياسي. ولم يتجاوز الموقف من قرارات الإصلاح الاقتصادي – بالنسبة لهؤلاء- كونه مجرد ورقة يتم توظيفها ضد النظام. وتأتي خطورة هذا التوجه من جانب بعض التيارات السياسية أنه يقوم على خلط الأوراق، وخلق حالة من الارتباك لدى المواطن البسيط. ويستغل هؤلاء وجود أكثر من بديل للإصلاح الاقتصادي، حيث يتم الترويج لأنماط بديلة دونما مناقشة لطبيعة الظروف أو الشروط الاقتصادية اللازمة لاعتماد كل بديل.

إن مطالعة سيل التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي تكشف بجلاء حجم انتشار هذه الإدراكات الخطأ ــ أو المتعمدة- السابقة من جانب الكثيرين لطبيعة عملية الإصلاح الاقتصادي. كما تكشف بجلاء أيضا حجم إصرار نظام السيسي على إصلاح الاختلالات الاقتصادية ومواجهتها وفقا لمقتضيات المصلحة الوطنية الاقتصادية المصرية، والقدرة على التحرك بدرجة أكبر من الاستقلالية عن ضغوط الطلب على السياسات «الرضائية» والاستمرار في هذه السياسات، والتي كان من شأنها مراكمة المزيد من المشكلات الاقتصادية على المدى البعيد، وذلك بافتراض القدرة على الاستمرار في تحمل هذه الأعباء المالية.

وفي الاتجاه ذاته، يتجه نظام السيسي إلى الاعتماد على «الإنجاز» كمصدر مهم لشرعية النظام، وليس أدل على ذلك من قائمة المشروعات القومية الجاري تنفيذها في مختلف المجالات. ويلاحظ على هذه المشروعات، أولا، تنوعها القطاعي، حيث تتوزع على قطاعات البنية الأساسية،والزراعة والاستزراع السمكي، والخدمات، والصناعات البتروكيماوية، والإسكان..إلخ.كما تتوزع، ثانيا، على مختلف الأقاليم الجغرافية في مصر، الأمر الذي يشير ليس فقط إلى اشتباك النظام مع قضية التنمية بشكل واسع النطاق، ولكن في إطار يعي أهمية التنمية المتوازنة قطاعيا وجغرافيا.

إن اعتماد نظام السيسي على هذا النمط من الإنجازات كمصدر رئيسي لشرعية النظام يشير، مرة أخرى، إلى وعي النظام وتمييزه الواضح بين الانجازات قصيرة المدى،وتلك التي تقتضيها المصلحة الوطنية في الارتقاء بالبنية الأساسية، ووضع الأسس والشروط اللازمة لإطلاق عملية تنمية متوازنة.
[email protected]
لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات;

رابط دائم: