«اتقوا شر البرد فقد قتل أخاكم أبا الدرد» حكمة يتناقلها السكندريون عند اشتداد موجات البرد ، يدفعون بها بعضهم البعض لاتخاذ الاحتياطات حتى لا يقضى عليهم البرد كما قضى على شيخهم أبى الدرداء صاحب الكرامات والمقام الذى يسكن بين قضيبى الترام فى أقدم أحياء الإسكندرية وأحد أهم شوارعها «شارع أبو الدرداء» نسبة الى الأنصارى عويمر بن عبد الله المكنى بأبى الدرداء .. فمن هو هذا الرجل الذى يتبرك السكندريون بضريحه العجيب ؟ ويتغنون بحكاياته وأساطيره ؟ وكيف وصل الى الإسكندرية ؟ تلك هى حكاية هذا الأسبوع
وحكاية هذا الرجل ترجع الى بدايات ظهور الإسلام ، وقد كان من قبيلة الخزرج ويسكن المدينة، و دخل الى الإسلام يوم غزوة بدر ، وقد كان الرجل حكيماً فى قومه وروى عن رسول الله أنه قال «إن الله وعدنى إسلام أبى الدرداء» وقد كان الرجل ثرياً يشتغل بالتجارة قبل إسلامه، فلما دخل الإسلام تتلمذ على يد الرسول الكريم ، فترك تجارته وحلق فى عالم الروحانيات وتفرغ للعبادة ، ثم شارك فى غزوة أحد وأحسن البلاء يومها فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم الى الأعداء يفرون أمامه منهزمين وقال «نعم الفارس عويمر غير أفُهٍَّ» أى غير جبان ولا ثقيل ولا يضجر من الشدة فيقول «أُفٍّ .. أُفٍّ»..
وحينما تولى عمر الخلافة عين لكل إقليم قاضياً يفصل فى خصومات الناس واختار أبا الدرداء ليكون قاضى المدينة عاصمة الخلافة الإسلامية فقد كان معروفاً بعلمه وتفقهه فى الدين وإيثاره للحق والعدل حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنه «عويمر حكيم أمتى»، وكان أبو الدرداء واحداً من خمسة توفروا على جمع القرآن وكلهم من الأنصار ، وبعد فتح الشام أرسله عمر ابن الخطاب ضمن بعثة تعليمية لتعليم الناس القرآن وليفقههم فى الدين فى السنة الخامسة عشر أو السادسة عشرة للهجرة فاستقر فى دمشق ، ثم ما لبث أن إلتحق بجيوش الإسلام التى خرجت لفتح مصر ويقول الدكتور جمال الدين الشيال فى كتابه «أعلام الإسكندرية فى العصر الإسلامى» أن المراجع ذكرت أنه شارك فى فتح الإسكندرية ، حتى أنه دخلها وأقام بها وقتاً بعد الفتح مع رفقته من كبار الصحابة حتى أن المراجع تكاد تحدد المكان الذى نزل فيه وهو مكان لا يبعد كثيراً عن الموضع الذى يقوم فيه الضريح المنسوب اليه الآن ، ويبدو أن أبا الدرداء لم يقم بالإسكندرية طويلاً فقد ذكرت بعض المراجع أنه غادر الإسكندرية الى الفسطاط ليشرف هو وثمانون (٨٠) من الصحابة على بناء قبلة جامع عمرو بن العاص عام ٢١ هجرية ، ثم عينه معاوية بن أبى سفيان قاضياً على دمشق بأمر عمر بن الخطاب، وفى عام ٢٨ هجرية خرج فى حملة فتح جزيرة قبرص التى انتصر فيها المسلمون .. وقد عاش الرجل ومات عالماً زاهداً وتذكر المراجع أنه توفى ودفن فى دمشق وأن قبره وقبر زوجته الصغرى معروفان بباب الصغير هناك ..
أما الضريح الموجود بالإسكندرية والذى يتبرك به البسطاء ويقيمون حوله الاحتفالات فى الأعياد فمن المرجح أنه بُنى كمبنى تذكارى أقامه السكندريون اعتزازاً منهم بذكرى هذا الصحابى الجليل الذى شارك فى فتح مدينتهم ومع الزمن اعتقد الناس أن هذا هو ضريحه وأن جثمانه مسجى به، ولكن الحقيقة التى قد تكون مؤسفة للسكندريين العاشقين للتراث والأساطير المصبوغة بصبغة دينية أن القبة الخضراء الموجودة بالضريح لا يوجد تحتها شيخ ، وعلى الرغم من ذلك فقد ربط السكندريون وجود ضريح هذا الشيخ بعدد من الأساطير والأحداث الخارقة خاصة أن الشخصية السكندرية على مدى التاريخ معروفة بأنها تعشق الأساطير والخوارق التى يربطها العامة والبسطاء بالدين فتكون دافعاً قوياً لهم لتحمل عناء ومشاق الحياة ، ومن هذه الحكايات ما يقصه الدكتور الشيال قائلاً :
ان البلدية عندما فكرت فى توسيع الشارع الذى يوجد به الضريح فى بدايات القرن العشرين رأت أن تنقل الضريح الى مكان آخر حتى لا يتوسط الشارع فيعوق المرور وبدأت فعلاً فى تنفيذ الفكرة ، ولكن واحداً من العمال الذين كانوا يعملون فى نقل الضريح توقفت يداه وأصيب بالشلل وأبى بقية العمال أن يستمروا فى عملهم ، وأيقنوا أن الولى الكبير والصحابى الجليل يأبى أن ينقل جثمانه من مرقده هذا ، واضطرت البلدية إلى أن ترضخ لاعتقاد العامة ، وأبقت الضريح كما هو وتحايلت لتوسيع الشارع من جانبيه ليسهل تسيير الترام ، فخَطَّا الترام فى هذا الشارع يسيران كالعادة متوازيين الى أن يصلا قرب الضريح فينفرجا ، ويدور كل منهما حول الضريح الى أن يخلفاه وراءهما ثم يتقابلان ثانية ليسيرا متوازيين , ولسيدى أبو الدرداء كرامة أخرى أنه فى ليلة مظلمة من ليالى عام ١٩٤١ عندما إشتدت غارات الطائرات الألمانية على المدينة ، وكان مبنى المحافظة أحد أهداف هذه الطائرات ألقى عليه طوربيد ضخم كان يكفى لتحطيم المبنى والحى المحيط به ، وهو حى آهل بالسكان ، ولكن العناية الألهية حمت الحى وساكنيه واستيقظ السكندريون ليروى كل واحد لأخيه كيف أن سيدى أبى الدرداء انتفض من قبره المجاور لمبنى المحافظة فأبعد الطوربيد بيديه ليسقط فى أرض فضاء مجاورة ويستقر فى تربتها الرخوة دون أن ينفجر ، وتقاطر السكندريون من كل فج يشاهدون هذه المعجزة التى لا يعلم حقيقتها أحد ولكنها استقرت كمعجزة فى الوجدان السكندرى .
وفى النهاية ورغم أن المقام عبارة عن حجرة بسيطة مربعة الشكل لا تزيد مساحتها على عشرين مترا ، تزين واجهتها آيات قرآنية وأعمدة خضراء ولا يوجد بها أى جثمان , إلا أن المكان برمته مازال يحظى باحترام وإجلال المواطنين مارة وركاب الترام الذى يلف بشكل حلزونى حول المقام الرابض بقوة على بازلت الشارع القديم مما يدفع كل من يمر إلى أن يهزهز رأسه يميناً ويساراً قائلاً “ مدد يا سيدى أبو الدرداء .. مدد» إنها الإسكندرية بحكاياتها وحواديتها وشيوخها وأوليائها الصالحين التى لا تنتهى .
رابط دائم: