سادت حالة من القلق الشديد لدى الفاعلين الرئيسيين في العالم العربي والشرق الأوسط حول ما ينتظر الإقليم بعد القمم الثلاث التي شهدتها المملكة العربية السعودية: القمة السعودية- الأمريكية، والقمة الخليجية- الأمريكية، ثم القمة الإسلامية- الأمريكية،على مدى يومي السبت والأحد الماضيين (20-21 مايو)، وما الذي يحمله لهم ترامب في جعبته؟
متأثرين في ذلك بالتصريحات السلبية التي صدرت عن ترامب حول مراجعة الولايات المتحدة لطبيعة التزاماتها الدفاعية تجاه حلفائها الخارجيين في مختلف الأقاليم، بما في ذلك منطقة الخليج العربي، مستحضرين في هذا الإطار طبيعة ترامب كشخص قوي ذي خلفيه اقتصادية يجيد عقد الصفقات المالية، ويميل إلى إخضاع السياسة لقواعد المال والأعمال وحسابات الربح والخسارة.
وربما وصل هذا القلق إلى حد تفضيل عدم مشاركة مصر في القمة الإسلامية- الأمريكية، خوفا من جرها إلى التزامات إقليمية قد تخرج عن نطاق طبيعة الدور التاريخي المصرى بالإقليم، أو عن حجم الإمكانات المصرية وطبيعة المرحلة التي بها مصر الآن ما قد يؤدي إلى إجهاض مشروعها الداخلي، أو الخروج عن ثوابت السياسة الخارجية المصرية، خاصة مبدأ عدم التورط في الأحلاف العسكرية، أو إجمالا الخوف من جر مصر إلى مستنقعات الإقليم
واقع الأمر أن مخاوف قطاع من المصريين حول المشاركة في القمة، وتبعاتها، لم تضع في اعتبارها مهارة صانع القرار المصري، وخبرة الدبلوماسية المصرية في التعامل مع الإقليم، ومع طبيعة علاقة النظام العالمي مع الإقليم، وهي مهارة وخبرة تستند في الحقيقة إلى خبرة الدولة المصرية. إن نظرة تاريخية لمراحل التحول الكبرى في إقليم الشرق الأوسط تشير إلى حقيقتين أساسيتين حول طبيعة الدور الإقليمي لمصر في هذه المراحل.
الأولى،أنها حددت تاريخياالقيم الرئيسيةالتي حكمت التحولات والسياسات الإقليمية الأساسية. فكما دشنت مصر، وقادت، حركات، «التحرر الوطني» في المنطقة خلال النصف الأول من القرن العشرين (بل إن هذا الدور المصري امتد خارج إقليم الشرق الأوسط ليشمل دعم حركات التحرر الوطني في إقليمي جنوب وجنوب شرقي آسيا، وإفريقيا)، ثم سياسة وحركة عدم الانحياز، ثم مبدأ وسياسة عدم التورط في الأحلاف العسكرية خلال فترة الحرب الباردة وقبلها، فإنها الآن تلعب أيضا الدور الأبرز في تكريس مجموعة من المبادئ والقيم الأساسية التي يجب- من وجهة نظرها- أن تتشكل على أساسها السياسات الرئيسية في الإقليم، والاقترابات الدولية تجاهه وتجاه فاعليه،بما في ذلك سياسات القوى العالمية والقوى الإقليمية ذاتها. وتدور هذه القيم بالأساس حول ضرورة الحفاظ على «الدولة الوطنية»بحدودها السياسية الراهنة باعتبارها الوحدة الأساسية للنظام الإقليمي وأحد الشروط الأساسية لاستقرار الإقليم، وعدم التدخل العسكري في الإقليم أو في الشئون الداخلية لدوله، والمعالجة المتكاملة لمشكلة الإرهاب، وأخيرا عدم «تديين» أو «تطييف» السياسات الإقليمية والسياسات الدولية تجاه الإقليم، بل والسياسات الداخلية للأنظمة السياسية ذاتها. إن استحضار مصر لهذه القيم أو المبادئ الأربعة بشكل مستمر في خطابها الدولي والإقليمي بعد ثورة يونيو 2013يستند إلى خبرة عملية مصرية مع التنظيمات الدينية وأنظمتها السياسية، والعلاقة القوية بين هذه التنظيمات وتقويض الدولة الوطنية.
إن قراءة دقيقة لكلمة ترامب تعكس توافقا مصريا- أمريكيا، وربما -إذا أردنا الدقة- تأثرا أمريكيا واضحا بالرؤية المصرية، باعتبار أن حكم السيسي يسبق تاريخياتشكل إدارة ترامب، وهو ما عبر عنه قول ترامب: «ومن جانبنا، فإن أمريكا ملتزمة بتعديل استراتيجياتها لمواكبة تطور التهديدات والحقائق الجديدة. سنتخلى عن الاستراتيجيات التي لم تنجح، وسنطبق نهجاجديدامستنيرا بالخبرة والفطنة. نحن نعتمد الواقعية الأخلاقية، المتجذرة في القيم والمصالح المشتركة.... إن شراكاتنا ستعزز الأمن من خلال الاستقرار، وليس من خلال الاضطراب الجذري. وسنتخذ قراراتنا على أساس النتائج في العالم الحقيقي – وليس بناء على أيديولوجيا غير مرنة. سنسترشد بدروس الخبرة، ولن ننحصر ضمن حدود التفكير المتزمت. وسنسعى، حيثما أمكن، إلى إجراء إصلاحات تدريجية - وليس التدخل المفاجئ». وهكذا، فإن تعبيرات ترامب تشير بوضوح إلى مراجعة واشنطن للسياسات والاستراتيجيات الأمريكية الخاطئة في المنطقة، وفي القلب منها التراجع عن سياسة التدخل السياسي، والعسكري في بعض الحالات، لتغيير الأنظمة السياسية في المنطقة بدعوى نشر الديمقراطية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى ايجاد حالة من الفوضى وعدم الاستقرار بل وانتشار التنظيمات الإرهابية، والانتصار لسياسة الإصلاح التدريجي وليس الثورة.
وفي الاتجاه ذاته، لعبت مصر من خلال هذه القمة دورا تاريخيا في تحديد أولويات التعاون الإسلامي- الأمريكي، وتصحيح التشوهات أو الانحرافات على قائمة هذه الأولويات كما حددها الخطاب الأمريكي.وبشكل عام، تضمن خطاب ترامب ثلاث أولويات أساسية، هي: الحرب على الإرهاب، والقضاء على عمليات تطييف السياسات الإقليمية التي تمارسها بعض القوى في الإقليم (إيران تحديدا وحلفاؤها من الفاعلين دون الدولة non-state actors مثل حزب الله، والحوثيين في اليمن)، وإنهاء سياسات تقويض الدولة الوطنية التي تمارسها نفس القوى الإقليمية تقريبا بجانب التنظيمات الإرهابية المختلفة التي مثلت أحد التحديات الأساسية للدولة الوطنية. وينطوي تحميل إيران هذه المسئولية عقب ساعات من انتهاء الانتخابات الرئاسية التي انتهت بنجاح ما يعرف بالتيار «الإصلاحي»، دلالة كبيرة، مفادها الانتصار لوجود علاقة بنيوية بين النظام السياسي الإيراني، والنخبة الإيرانية باختلاف توجهاتها، ومسألة التدخل في الشئون الداخلية لدول الإقليم، واتجاهها إلى بناء علاقات تبعية لعدد من الفاعلين من دون الدولة على أسس طائفية، واستخدامها كأدوات أساسية للتدخل وتقويض مؤسسات الدولة الوطنية في عدد من الدول العربية. إذ لم تشهد هذه التوجهات الإيرانية مراجعة ملحوظة في المراحل التي سيطر فيها التيار الإصلاحي على السلطة في إيران.
لقد كان من شأن التسليم بتلك الأولويات أن يؤدي إلى انحراف كبير أو تشويه لمسئوليات النظام الدولي تجاه الإقليم، وأولويات العمل الإقليمي، على حساب القضية المركزية بالإقليم وهي القضية الفلسطينية. إن التركيز الواضح في كلمة الرئيس السيسي على محورية القضية الفلسطينية وضرورة تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي سيشكل بالتأكيد محددا مهما للسياسة الأمريكية تجاه قضايا الإقليم، خاصة في ضوء الربط الواضح للرئيس السيسي بين التسوية العادلة للقضية الفلسطينية على أساس مبدأ الدولتين، من ناحية، والقضاء على مصادر الإرهاب في الإقليم، من ناحية أخرى. كذلك فإن التركيز على تسوية القضية الفلسطينية كان له أهميته من أكثر من زاوية، الأولى قطع الطريق على تطور استقطاب أو تحالف واحد ضد دولة بعينها في المنطقة، بمعنى أنه إذا كانت الإدارة الأمريكية تطمح إلى بناء تحالف سني (إسلامي) في مواجهة إيران والتنظيمات الإرهابية، فإن ذلك لا يجب أن يعني إغفال القضية الفلسطينية، ولا يعني بحال من الأحوال التضحية بها أو اختزال التحديات الأمنية بالإقليم في الإرهاب والتحدي الأمني الإيراني فقط. الثانية، هي لفت نظر الإدارة الأمريكية لخطورة بعض السياسات التي يمكن أن تقع فيها تحت ضغط إسرائيل أو جماعات المصلحة اليهودية، من قبيل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أو غيرها.
الثالثة، أن مصر لم تتجه تاريخيا إلى العزلة الإقليمية أو الانكفاء على الداخل، وحتى في الحالات التي فُرضت عليها هذه العزلة فإنه غالبا ما دفع الإقليم نفسه ثمن تلك العزلة. والمثال التاريخي هنا هو العزلة التي فرضها عدد من الدول العربية على مصر عقب قرار الرئيس الراحل محمد أنور السادات زيارة إسرائيل وتوقيع معاهدة السلام معها؛ فرغم تجاوز العلاقات المصرية- العربية هذه المرحلة بعد انتهاء نظام السادات، مع ذلك مازال العالم العربي، خاصة الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، يدفعون ثمن هذه العزلة، وثمن الخروج العربي عن التيار المصري. ربما تكون سياسة «العزلة» و«الانكفاء على الداخل» هي البديل الأنسب والأقل تكلفة على المدى القصير لكنها قد لا تكون كذلك بالضرورة على المديين المتوسط والبعيد.
وربما يجادل أنصار دعوة «الانعزال» عن الإقليم في المرحلة المقبلة، كما سبق القول،استنادا إلى الأوضاع الاقتصادية الداخلية، أوحفاظا على المشروع الوطني الداخلي، أو إلى غموض سياسات إدارة ترامب، أو إلى تعقيدات الإقليم، لكن هذه الدعوة تقوم على افتراض غير دقيق، وتفتقد إلى الدقة من أربعة أوجه.
أولها، أن الالتحاق المصري بعمليات تشكيل الإقليم والتحولات الاستراتيجية الرئيسية المتوقعة به خلال الفترة المقبلة لا يعني بالضرورة المساهمة المصرية في أى عمليات عسكرية متوقعة بالإقليم، فقد مثل «الدعم السياسي» المصري إحدى صور المشاركة الأساسية وإحدى الأدوات المصرية المهمة في التعامل مع قضايا الإقليم. كما مثل هذا الدعم في حد ذاته أحد الشروط الأساسية لتدشين بعض العمليات المهمة في الإقليم. من ذلك، على سبيل المثال، الدعم السياسي المصري لعمليات التحالف العربي في اليمن دون المشاركة الواسعة في العمليات العسكرية لهذا التحالف، والدعم السياسي المصري للعمليات العسكرية ضد التنظيمات الإرهابية في المنطقة دون المشاركة المباشرة فيها أيضا.
ثانيها، أن العنوان الأكبر للسياسات الجديدة المتوقعة في الإقليم قد لا يكون إعادة تشكيل أو «إعادة هيكلة الإقليم» re-structuring the region، بقدر ما قد يكون «إعادة الإقليم إلى شكله التقليدي» restoring the region وهي مصلحة مصرية بالتأكيد تستوجب الحضور المصري فيها.
ثالثها، أن الانعزال والانكفاء على الداخل كان من شأنه أن يؤدي إلى تمدد قوى إقليمية أخرى على حساب الدور المصري، بل وعلى حساب الرؤية المصرية لما يجب أن يكون عليه الإقليم، خاصة في ظل وجود بعض الاختلافات في وجهات النظر المصرية- العربية بشأن بعض القضايا الإقليمية. وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى قدرة صانع القرار المصري، والدبلوماسية المصرية، على التعبير عن وجهات نظر مختلفة عن تلك السائدة في الإقليم، أو التي يتوقع فاعلون دوليون وإقليميون آخرون سماعها في مراحل معينة. وتقدم كلمة السيسي أمس الأول أمام القمة مثالا فريدا في هذا الإطار، فلا شك أن ما تضمنته هذه الكلمة، سواء فيما يتعلق بشروط المواجهة الفاعلة للإرهاب أو فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، يعكس قدرة مصر على الاختلاف مع بعض الفاعلين الدوليين والإقليميين. إن امتلاك القدرة على الاختلاف عن الآراء السائدة في الإقليم أعطى مصر قدرة أكبر على الالتحاق بعمليات تشكيل السياسات الإقليمية، كما منحها أيضا قدرة على مقاومة تيار العزلة.
رابعها، أن المطروح على دول المنطقة- وفقا لكلمة ترامب أمام القمة-هو نوعان من التكتلات الإقليمية، الأول، هو بناء تحالف إسلامي- أمريكي ضد الإرهاب، تتولى فيه الدول الإسلامية المسئولية الرئيسية لمواجهته فكريا وعسكريا،استنادا إلى وفقا لما ذهب إليه ترامب «دول الشرق الأوسط لا يمكنها انتظار تدمير القوة الأمريكية لهذا العدو (الإرهاب) بالنيابة عنها. على أمم الشرق الأوسط أن تقرر نوع المستقبل الذي تريده لنفسها، وبصراحة، لعائلاتها وأطفالها. إنه خيار بين مستقبلين، وهو خيار لا يمكن لأمريكا أن تأخذه بالنيابة عنكم.» وتجدر الإشارة هنا إلى ملاحظتين أساسيتين، الأولى، أنه لا يوجد خلاف مصري- أمريكي كبير حول ضرورة الحرب الشاملة على الإرهاب، الثانية أن هناك توفقا أمريكيا- مصريا كبيرا أيضا حول ضرورة التنسيق الإقليمي، بل وأولوية المواجهة المحلية دون التدخل العسكري الدولي. وقد قدمت مصر نموذجا رائدا في هذا الإطار. والواقع أن هذه ليست هي التجربة أو النموذج الأول للاعتماد الأمريكي على القدرات الإقليمية/ المحلية لمواجهة التطرف والإرهاب، فقد سبق أن اعتمدت الولايات المتحدة هذه الآلية في إقليم جنوب شرقي آسيا، ورابطة الآسيان، عقب أحداث سبتمبر 2001، حيث اقتصر الدور الأمريكي على تقديم الدعم. التكتل الثاني هو تكتل سياسي- دبلوماسي، وليس عسكريا، ضد إيران بهدف إجبارها على العدول عن سياساتها الطائفية في المنطقة وعدم التدخل في الشئون الداخلية لدول الإقليم، وقطع علاقاتها مع التنظيمات الإرهابية. فقد ذهب ترامب في هذا الإطار إلى أنه «وحتى يرغب النظام الإيراني في أن يكون شريكاً في السلام، يجب على جميع الدول أن تعمل معا لعزل إيران، ومنعها من تمويل الإرهاب، وأن تدعو أن يأتي اليوم الذي يتمتع فيه الشعب الإيراني بالحكومة العادلة الصالحة التي يستحقها».
وهكذا، وعلى الرغم من بعض المعالجات السلبية للقمم الثلاث، إلا أنها أنهت حالة الغموض والتكهنات حول طبيعة العلاقة بين الولايات المتحد في عهد ترامب وإقليم الشرق الأوسط، وحول طبيعة العلاقات الأمريكية- العربية، ودشنت لمرحلة السياسة الأمريكية الفعلية تجاه الإقليم وأزماته المختلفة، وحددت أولويات الإدارة الأمريكية في المنطقة، وأولويات التعاون الأمريكي- العربي، أو الأمريكي- الإسلامي، كما تراها إدارة ترامب وكما تراها القوى الإقليمية الرئيسية. ولعل أهم ما كشفت عنه الكلمات الرئيسية هي الحاجة الملحة إلى تنسيق عربي- عربي بشأن مختلف قضايا الإقليم ومجالات التعاون الإسلامي- الأمريكي، وفرض أولويات هذا التعاون. وبدون هذا التنسيق قد تجد الدول العربية نفسها في مواجهات مباشرة.
[email protected] لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات; رابط دائم: