ربما كان الخطاب الشعبوي المنتشر في بلادنا منذ سنين، هو أحد الأسباب الرئيسية للكوارث التي مرت وتمر بها. فمتى يكون لدينا خطاب عقلاني واقعي علمي وعملي؟ ألم يحن الأوان بعد لتغيير خطابنا السياسي والإعلامي؟ وإلى متى سنظل نتغني بخطاب خمسينات القرن الماضي؟ إلى متى سيظل خطابنا، يفتقد للدقة وللمعلومات وللأرقام؟
فعلي ما يبدو أن الصراع الحقيقي والعميق في العالم، لا تدور رحاه في الشرق الأوسط، يا سادة اقرأوا بتأن واهتمام لتتعرفوا على الحقائق الحقيقية، ففي العام الماضي وتحديدا في 2 فبراير، وقعت 12 دولة اتفاقية " الشراكة عبر المحيط الهادي"، في خطوة اعتبرها الكثيرون محاولة أمريكية لـ "إعادة التوازن" الاقتصادي لآسيا، ووقف تعاظم دور الصين هناك.
ووقعت الاتفاقية خلال حفل أقيم في نيوزيلندا، كل من أستراليا، وبروناي، وكندا، وتشيلي، واليابان، وماليزيا، والمكسيك، ونيوزيلندا، والبيرو، وسنغافورة، والولايات المتحدة، وفيتنام. وترمي هذه الاتفاقية، إلى كسر الحواجز أمام التجارة والاستثمار بين 12 دولة، تشكل حوالي 40% من الاقتصاد العالمي. وتنص الاتفاقية، على تخفيض أو إلغاء معظم الرسوم الضريبية على كل المنتجات، من لحوم البقر، ومنتجات الألبان، والنبيذ، والسكر، والأرز، والمزروعات، والمأكولات البحرية، وصولا إلى المنتجات المصنعة والموارد والطاقة. كما تشمل أيضا، مجالات كتبادل المعلومات والملكية الفكرية، التي لم تكن تشملها الاتفاقات السابقة المتعددة الأطراف.
وقال رئيس الوزراء النيوزيلندي، " إن الاتفاقية ستسمح بتأمين وصول أفضل إلى السلع والخدمات، لأكثر من 800 مليون شخص في دول الشراكة عبر المحيط الهادي، التي تمثل 36% من إجمالي الناتج الداخلي العالمي".
ويرى محللون أن هذه الاتفاقية، التي تضم عددا من دول القارة الآسيوية، تهدف إلى وقف تعاظم دور الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادي. وبرأي الخبراء، ستواجه اتفاقية " الشراكة عبر المحيط الهادي "، تحديا خاصة بعدما أطلقت الصين مشروع " طريق الحرير الجديد "، الذي يعد أحد أكبر مشروعات البناء والتنمية الاقتصادية في العالم. وتقوم الرؤية الطموحة لبكين، على فكرة إحياء "طريق الحرير" القديم، ليصبح ممرا حديثا للتجارة والاقتصاد يمتد من شنغهاي إلى برلين، حيث من المقرر أن يمر الطريق عبر الصين ومنغوليا وروسيا وبيلاروس وبولندا وألمانيا، بحيث يخلق منطقة اقتصادية تمتد عبر أكثر من ثلث محيط الأرض.
بدوره، اعتبر الكرملين، على لسان المتحدث باسمه ديمتري بيسكوف، أنه من السابق لأوانه إصدار تنبؤات بشأن، هل ستصبح اتفاقية " الشراكة عبر المحيط الهادي " بديلا لتكتلات اقتصادية قائمة كالاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم كلا من (روسيا، وكازاخستان، وبيلاروس، وأرمينيا، وقرغيزيا )، لافتا إلى أن موقف روسيا من " الشراكة عبر المحيط الهادي " لم يتغير. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد أعلن في وقت سابق، أن إنشاء كيانات اقتصادية مغلقة كـ " الشراكة عبر المحيط الهادي " يؤدي إلى زيادة الخلل في الاقتصاد العالمي.
هذه المقدمة الطويلة نوعا ما، تمهيدا للتأكيد علي حقيقة طالما كانت غائبة عنا كثيرا، عن عمد وعن غير عمد، تتلخص في "شائعة" الموقع الجغرافي للمنطقة العربية، وأن المنطقة العربية تتوسط العالم، ومن ثم كان اهتمام أمريكا بالمنطقة. هذه المقولة الشائعة في كتب التاريخ والجغرافيا، والخطاب السياسي والديني أيضا، هي مقولة للأسف مضللة وغير صادقة، بل مخالفة للعلم وللمنطق، وتتعارض مع الحقيقة العلمية الجغرافية عن الكرة الأرضية. الحقيقة العلمية تقول إن الكرة الأرضية، بيضاوية الشكل، مما يعني أنه ليس لها مركز، ولا توجد منطقة تتوسطها، فكل نقطة في الأرض تعتبر مركزا، وكل منطقة في الأرض، تعتبر تتوسط باقي الكرة الأرضية. والحقيقة أيضا، أن اهتمام أمريكا بالمنطقة العربية، ليس بسبب موقعها الجغرافي، وأن المنطقة العربية، لا تتوسط العالم (يرجى التدقيق بالخرائط)، فالحقيقة الجغرافية تخالف تماما المعتقدات العربية، التي تقول إن الدول العربية تتوسط العالم, وأنها تربط بين القارات الثلاث، وأنها بسبب حدود آسيا مع أفريقيا، من خلال فلسطين الآسيوية ومصر الأفريقية من جهة، وما بين سوريا الآسيوية وتركيا الأوروبية. فإن موقعها استراتيجي، وأنه لهذا السبب، أبدت دول العالم وتبدي، ومن ضمنها أمريكا اهتمامها بها.
ويغيب عن أصحاب هذا القول، إن الكرة الأرضية دائرية، وأنه بسبب هذا الدوران، فإن لأمريكا، حدود برية مباشرة مع روسيا، ولها، حدود بحرية مباشرة مع الصين والهند عبر المحيط الهادي، وأن لأمريكا، حدود مباشرة مع أوروبا عبر المحيط الأطلسي. وأن لها أيضا، حدود مباشرة مع أمريكا الجنوبية عبر المحيط الهادي وعبر قناة بنما. وأن لأمريكا، حدود مباشرة مع أفريقيا، عبر المحيطات الهادي والأطلسي، عبر البحر المتوسط وعبر المحيط الهادي ثم المحيط الهندي. وأن قارتي آسيا وأوروبا، تتصلان ببعضهما البعض من خلال روسيا الآسيوية ودول أوروبا الشرقية، فنلندا وأوكرانيا وروسيا البيضاء والسويد.
كما يغيب عن بال واضعي المناهج الدراسية العربية، والمنظرون السياسيون، أن الدول العربية لا تتصل اتصالا بريا مباشرا بأوروبا، عبر أي نقطة جغرافية على الإطلاق، فالرابط بين أسيا وأوروبا هو مضيق البوسفور الواقع في العاصمة التركية اسطنبول فقط لا غير.
الانجليز هيمنوا وسيطروا على الخليج في أوائل القرن التاسع عشر، ليس لأن فيه ثروات، فقد كان صحراء قاحلة قاتلة. وإنما سيطرتهم كانت في إطار حماية التجارة الرابحة مع الهند، بعد أن أصبحت ممتلكات الشركة في الهند مربحة للغاية، اكتسبت المنطقة المحيطة إلى جانب المسارات التجارية من وإلى الهند أهمية جديدة بالنسبة للشركة. وبهذا ازدادت مشاركتها في منطقة الخليج مباشرة، وعلى الرغم من سعيها في البداية لحماية سفنها وموظفيها في المنطقة، فإن ذلك قد تطور إلى سيطرة سياسية، فرضها استخدام القوات العسكرية، ولا سيما البحرية. وكان جزء كبير من هذه التحركات يقوم على الإستراتيجية التي تتبعها بريطانيا، لمنع القوى الاستعمارية المنافسة من التدخل في الخليج ومشاركتها السيطرة عليه.
أخيرا، كثيرة هي تلك المفاهيم والمعتقدات والحقائق، وهي في غاية التأثير السلبي نتيجة إرث تاريخي ثقافي وسياسي طويل الأمد، ونتيجة مراحل تاريخية مرت بها المنطقة والعالم، حين جمدت تلك المفاهيم والحقائق، وفق فهم مرحلة معينة، وتفسير حقبة معينة، نتيجة ظروف معينة، ولغايات معينة، وفي ظل عدم التفرقة بين ما هو ديني إلهي مطلق، وبين ما هو تاريخي بشري نسبي، فأُعطيت صفة الثبات والإطلاق، فكانت وبالا علينا وعلى العالم، حين تحولت إلى مؤطر ودافع لسلوك، بالنسبة إلينا وللعالم أجمع. المشكلة تكمن حين نسبغ صفة الدوام والاستمرارية على ما هو غير قابل للثبات في جوهره، ونحكم من خلاله على أحداث جارية ومتغيرة، فيضيع ساعتها المفهوم بمعناه ومحتواه الأصلي، ومن ثم نفقد الصلة مع ما هو واقع ومحتاج إلى تجديد أو حتى إعادة صياغة.
لمزيد من مقالات ابراهيم النجار; رابط دائم: