رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
جاء هذا الغموض كنتيجة طبيعية لعوامل عديدة، تعلق بعضها بحالة «التسييس» الواسعة لمعظم التفاعلات الجارية داخل المجتمع المصري، وتعلق بعضها الآخر بسيطرة تيارات فكرية بعينها على بعض هذه المؤسسات، وميل هذه التيارات بطبيعتها إلى التوسع في عملية «التسييس» تلك باعتبارها شرطا رئيسا للحفاظ على حالة من الزخم حول هذه التيارات، باعتبار ذلك أيضا شرطا رئيسا لبقاء هذه التيارات. وقد مثلت أزمة نقيب الصحفيين وعدد من أعضاء مجلس النقابة خلال شهر أبريل ٢٠١٦، وجر النقابة والجماعة الصحفية إلي حالة من الصدام غير المبرر، وغير المحسوب، مع مؤسسات الدولة المصرية نموذجا مهما وكاشفا عن هذه الحالة. لقد ركزت العديد من الكتابات السابقة على ما كشفت عنه هذه الأزمة من عدم وضوح طبيعة العلاقة بين النقابة ومؤسسات الدولة وفقا لرؤي هذا التيار، وطريقة إدارة هذه العلاقة في حالة وجود خلافات حادة بين الجانبين،لكن تظل هناك مشكلتان أخريان لايقلان ــ في تقديري- أهمية، كشفت عنهما هذه الأزمة، ويجب استحضارهما ونحن أمام استحقاق انتخابي جديد. الأولي هي عدم وضوح طبيعة ودور نقابة الصحفيين لدي فصيل قُدر له أن يتولي قيادة النقابة في هذه المرحلة. والثانية هي عدم وضوح طبيعةالعلاقة بين النقابة والجماعة الصحفية وضوابط تعبير النقيب ومجلس النقابة عن هذه الجماعة، وضوابط استخدام التفويض الممنوح لهم بموجب صندوق الانتخاب. لقد ضاعت في سياق طريقة إدارة هذه الأزمة حقيقتان أساسيتان حول نقابة الصحفيين، يجب استحضارهما بقوة ونحن أمام استحقاق انتخابي جديد. الحقيقةالأولى، أنهانقابة تمثل جموع العاملين بمهنة الصحافة، سواء داخل المؤسسات الصحفية القومية، أو الحزبية، أو الخاصة، ومن ثم فإن أول معايير المهنية هنا هي ضرورة أن يعكس مجلس النقابة هذا التنوع المؤسساتي داخل الجماعة الصحفية. وتزداد أهمية هذه النقطة بالنظر إلي جملة التحديات التي تنتظر الجماعة الصحفية بكاملها خلال المرحلة المقبلة، وهي تحديات يرتبط بعضها بمستقبل المهنة، كما يرتبط بعضها الآخر بتحد مهم يتعلق بتراجع الأهمية النسبية لامتلاك الصحف الخاصة بالنسبة للعديد من رجال الأعمال، بل وفقدان بعض هذه الصحف وظيفتها «السياسية» ومبرر وجودها، بالمقارنة بمرحلة مبارك، ويرتبط بعضها الآخر بالتحديات التي تواجه الصحافة القومية. هذه التحديات تعني بوضوح أن الجماعة الصحفية في حاجة إلي نقابة تمثل رقما مهما في مواجهة وإدارة هذه التحديات، وليس رقما في صناعة المزيد من المشكلات؛ نقابة تلعب دورا في إيجاد مناخ إيجابي موات لإدارة هذه التحديات والتي تتطلب حدا أدني من الحوار والتوافق مع صانع القرار، وليس خلق مناخ صراع لن تقف تأثيراته عند حدود مبني النقابة فقط، بل قد يطول مستقبل المؤسسات الصحفية ومهنة الصحافة ذاتها. الحقيقةالثانية، أنها نقابة «مهنية» - نسبة إلي ارتباطها بجماعة مهنية بعينها-حيث تظل صفة «المهنية» هنا هي المعيار الفاصل والمُميِز بينها وبين الكيانات التنظيمية الأخري، مثل «الأحزاب السياسية» و«جماعات المصالح»، فإذا كانت «السياسية» هي الصفة اللصيقة بالكيانات الحزبية، و«المصالح» -أو «الضغط» ــ وفق تعبيرات أخري-هي الصفة اللصيقة بجماعات المصلحة، فإن «المهنة» هي الصفة اللصيقة بهذا النمط من النقابات. هذاالتمايز في الصفات يستتبعه تمايز مماثل في هوية وأدوات عمل هذه التنظيمات. ولا يعني ذلك أن أيا من جماعات المصلحة أو النقابات المهنية لا تستخدم أدوات ذات طبيعة سياسية بالمعني العام، لكن يظل هناك فارق كبير بين توظيف أدوات السياسة، و«تسييس» العمل النقابي. وعلي سبيل المثال، يكون بإمكان «النقابة المهنية» استخدام ما تتيحه السياسة من أدوات مثل «التفاوض»، أو التأثير علي صانع القرار، أو التأثير علي الرأي العام (وهي أداة لا يمكن توظيفها بدون صورة ذهنية إيجابية لدي الرأي العام حول الجماعة المهنية)،لتحقيق مصالح أصحاب مهنة معينة، لكن عندما يتم تحويل «النقابة المهنية» إلي «جماعة سياسية» أو يتم توظيفها لمصلحة تيار سياسي بعينه، أو أن تسعي إلي تحقيق أهدافها من خلال بناء علاقات تحالف مع تيارات سياسية أو دينية معينة، خاصة إذا كانت من خارج السلطة أو المؤسسات السياسية الرسمية في لحظات محددة، أو يتم اختزال مصالح الجماعة الصحفية في مصالح فئة أو تيار بعينه فإنها تكون قد فقدت هويتها وإحدي سماتها الرئيسية وخطوط تمايزها عن الأنماط التنظيمية الأخري، وتكون قد فقدت قدرتها وأهليتها في التمثيل الحقيقي للجماعة المهنية بتنوعاتها المؤسساتية والفكرية. ولا يدحض من ذلك القول أن نقابة مثل نقابة الصحفيين، علي سبيل المثال، تمثل «مظلة» أو «منصة» للدفاع عن الحريات، فهي كذلك بالفعل ولا يمكن انتزاع هذه الوظيفة الأساسية عنها، ولكن يجب أن يكون ذلك في إطار الدفاع عن حرية الصحافة وحريات الرأي والتعبير، لا أن تكون «منصة» للتيارات السياسية،وإلا تكون قد تجاوزت دورها وطبيعتها ككيان يمثل جماعة مهنية معينة، وجارت علي أدوار كيانات أخري داخل المجتمع. والواقع أن تزايد عملية «تسييس» النقابات المهنية وأدوات العمل النقابي في مصر ارتبطت -إلي حد كبير- باستراتيجيات عمل جماعة الإخوان المسلمين خلال نظام مبارك، ضمن استراتيجية الجماعةلاختراق هذه النقابات، وبمرحلة ما بعد يناير ٢٠١١ كجزء من حالة السيولة والفوضي السياسية، بشكل عام، وكامتداد أيضا لاستراتيجية الجماعة للهيمنة علي مختلف الفاعلين والأطر السياسية والنقابية خلال تلك المرحلة...إلخ. والواقع أن مبدأ حظر عمل النقابات المهنية بالسياسة هو مبدأ قديم، أرسته العديد من الخبرات النقابية العالمية. وعلي سبيل المثال، نصت المادة ٤١١/١ من قانون العمل الفرنسي الصادر في سنة ١٨٨١، علي أن «النقابات المهنية هدفها فقط دراسة والدفاع عن المصالح الاقتصادية والصناعية والتجارية والزراعية»، ثم جاءت المادة ٣/٣ من القانون المعروف بـ «قانون ١٨٨٤» لتنص علي أن «المسائل السياسية والدينية ممنوعة عليها، وأن هذه النقابات لا تستطيع أن تمارس بطريقة مباشرة صناعة ولا تجارة، ولكن تستطيع النقابة تسهيل إنشاء شركات تعاونية». وقد جري العمل بهذا المبدأ في مصر، حيث درجت قوانين النقابات علي حظر عملها بالسياسة. ولم يأت الانحراف عن هذا المبدأ إلا في عقد الستينيات، خاصة موضوع التوجه الاشتراكي وتأسيس الاتحاد الاشتراكي وإعلان الميثاق الوطني في بداية الستينيات، والتعامل مع جميع الفواعل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية باعتبارها أدوات لتحقيق الحلم الاشتراكي. ووفق العديد من آراء فقهاء القانون فإنه رغم ما بدا عليه ظاهر النصوص القانونية خلال تلك المرحلة من السماح للنقابات بالاشتغال بالسياسة، إلا أن إرادة المشرع انصرفت بالأساس إلي تحويل هذه النقابات إلي مجرد أدوات في يد التنظيم السياسي الوحيد القائم،ممثلا في الاتحاد الاشتراكي، وهو ما تأكد من خلال القوانين المنظمة لعمل النقابات المهنية. وعلي سبيل المثال، حددت المادة الثالثة من قانون نقابة الصحفيين رقم ٧٦ لسنة ١٩٧٠ أهداف النقابة في ثمانية أهداف،كان أولها «العمل علي نشر وتعميق الفكر الاشتراكي القومي بين أعضائها وتنشيط الدعوة إليه في داخل المؤسسات الصحفية وبين جمهور القراء...». الأمر ذاته فيما يتعلق بقانون نقابة الأطباء رقم ٤٥ لسنة ١٩٦٩ الذي حددت مادته الثانية أهداف النقابة، والتي كان من بينها «العمل علي نشر ودعم الأفكار والقيم الاشتراكية بين الأطباء والتعبير عن آراء الأطباء في المسائل الاجتماعية والاقتصادية الوطنية». وعلي العكس، فقد كان لصدور قانون المحاماة،والمنظم لنقابة المحامين، خلال عقد الأربعينيات (القانون رقم ٩٨ لسنة ١٩٤٤) تأثيره في تحديد علاقة النقابة بالسياسة؛ فقد نصت الفقرة الثانية من المادة ١٠٩ من القانون علي أنه «يحظر علي الجمعية العمومية ومجلس النقابة أن يشتغلا بالمسائل السياسية، كما يحظر عليهما الاشتغال بالأمور الدينية». كما كان لصدور قانون النقابة رقم ١٧ لسنة ١٩٨٣، والقوانين المعدلة له، أي بعد انتهاء حقبة التوجه الاشتراكي، دور في غياب مثل هذه النصوص، تأكيد الطابع المهني والأهداف المهنية للنقابة. ويصدق الاستنتاج ذاته علي قانون نقابة الصحفيين السابق رقم ١٨٥ الصادر في سنة ١٩٥٥ الذي خلا من أي دور سياسي للنقابة وفقا للمادة الثالثة التي حددت وظيفة النقابة في مهمتين أساسيتين، هما «العمل علي رفع مستوي مهنة الصحافة...»، و«تنمية روح التعاون بين أعضاء النقابة والمحافظة علي حقوقهم والسعي في ترقية شئونهم الأدبية والمادية». غاية القول إن الانحراف التاريخي للنقابات المهنية في مصر بعيدا عن طبيعتها ومسارها المهني جاء بفعل عاملين، أولهما هو تأثير مرحلة التوجه نحو الاشتراكية وتجربة التنظيم السياسي الواحد خلال عقد الستينيات، وثانيهما استراتيجية التنظيمات الدينية، ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين بالأساس، لاختراق هذه النقابات في عهد مبارك، وهي الاستراتيجية التي امتدت إلي مرحلة ما بعد يناير ٢٠١١. وترتبط بالطبيعة المهنية السابقة نقطتان أخريان علي درجة كبيرة من الأهمية والتداخل، الأولي هي مرونة وباراجماتية أدوات العمل النقابي، إذ تسعي النقابات المهنية في الأغلب إلي انتزاع المزيد من الامتيازات، المادية والاجتماعية والمهنية، من صانع القرار، وتعظيم مصالح الجماعة المهنية بشكل عام، الأمر الذي يفرض درجة من المرونة. الثانية، هي الوزن النسبي المهم لاستراتيجية «التفاوض»مع صانع القرار كأداة أساسية لتحقيق غايات الجماعة المهنية. فمع أهمية جميع أدوات العمل النقابي، لكن يظل «التفاوض» هو الأداة المثلي لتحقيق غايات الجماعة المهنية. وعلي الرغم من أهمية دور الأبنية التشريعية والتنظيمية في الحفاظ علي الطابع المهني للنقابات المهنية، لكن تظل المسئولية الأكبر في الحفاظ علي هذا الطابع هي مسئولية الجماعة المهنية ذاتها، ممثلة في جمعيتها العمومية. وعلي الرغم من أهمية تغيير الإطار القانوني الحاكم لعمل النقابة بما يضمن تحويلها إلي نقابة مهنية بالمعني الدقيق، لكن لا يمكن الوصول إلي هذه الغاية دون وجود نقيب قوي ومجلس نقابة مهني غير مسيس؛فلاشك أن وجود نقيب ضعيف أو سيطرة فصيل سياسي محدد علي مجلس النقابة يزيد من فرص تسييس النقابة وأدوات العمل النقابي، ويزيد من فرص اختطاف النقابة لتحقيق مصالح تيار سياسي بعينه، علي نحو سينعكس في التحليل الأخير علي طبيعة التعديلات التي يمكن إدخالها علي الإطار القانوني القائم أو ربما تطور مصلحة في عدم المساس بهذا الإطار. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات