في عام 1972، أرغم الكونجرس الأمريكي الرئيس ريتشارد نيكسون، على الاستقالة بعد فضيحة وترجيت الشهيرة، والتي تجسس فيها الحزب الجمهوري على منافسه الحزب الديمقراطي. فهل يكرر التاريخ نفسه مرة أخري؟ ربما تكون الأسباب هذه المرة مختلفة تماما عن ذي قبل، بيدً أنه وفي كل الأحوال، فان الضجيج الذي يملأ واشنطن، قد علا صوته وارتفع صخبه بدرجة غير مسبوقة، والأصوات كافة تنادي بعزل ترامب. في البداية يحق لنا التساؤل، ما صلاحيات الرئيس الأمريكي حسب الدستور الأمريكي؟ وما الأسباب أوالمبررات التي يمكن وفقا لها عزل أي رئيس أمريكي من موقعه، كأعلى صاحب سلطة، لا في بلاده فقط بل في العالم؟.
من المعلوم أن رئيس أمريكا، الذي يعد أقوى رجل في العالم ليس محصنا، وصلاحياته تبقى محدودة بموجب الدستور. غير أن الدستور مرن إلى حد كبير، ويسمح لكل رئيس بتكييف هذه الصلاحيات مع احتياجاته في أي وقت، وتنص المادة الثانية من الدستور، على أن السلطة التنفيذية تسند إلى الرئيس، كما تنص على أن مدة الولاية أربع سنوات. الرئيس الأمريكي كذلك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويملك صلاحيات قرار وقف تنفيذ عقوبات والعفو، وبإمكانه إبرام معاهدات، شرط استشارة مجلس الشيوخ والحصول على موافقة ثلث أعضاء مجلس الشيوخ الحاضرين. كما يملك الرئيس حق الاعتراض "الفيتو"، على نصوص القوانين التي يقرها الكونجرس، الذي يمكنه مع ذلك تجاوز "الفيتو" الرئاسي، من خلال التصويت بغالبية ثلثي أعضائه.
ويمكن عزل الرئيس الأمريكي والسلطة الوحيدة القادرة على فعل ذلك هي مجلس النواب، بعد إقرار مجلس الشيوخ في حالات الخيانة، الرشوة، الجرائم الخطيرة، مثل شهادة الزور، وإساءة استعمال السلطة لمصلحته الخاصة. وقد صوت مجلس النواب بالفعل من قبل في تاريخ أمريكا مرتين على إجراء من هذا النوع بحق رئيس البلاد، مرة ضد الرئيس اندرو جونسون عام 1868، والمرة الثانية ضد الرئيس بيل كلينتون عام 1998، إلا أن المجلس لم يعزل أيا منهما حرصا على أهمية مقام الرئاسة الأمريكية.
يبدو أن الانتخابات الأمريكية الأخيرة 2016، ستظل محفورة في ذاكرة السياسة الأمريكية، لا لأنها حملت إلى البيت الأبيض، مرشحا بلا ماض سياسي، ومثيرا للجدل، ينكل بالمهاجرين والأقليات وبالنساء والسود. بل لأنه أيضا، يسجل أول انبثاق لحالة غير مسبوقة في تاريخ الترشيح والفوز في كل الأنظمة المعتبرة ديمقراطية. ذلك أن ترامب، قد تقدم باسم الحزب الجمهوري، لكن لا شيء قد أكد خلال حملته الانتخابية، أنه يتبني بالفعل خط ذلك الحزب. بل على العكس من ذلك تماما، فقد ألقى بتصريحات تتناقض مع أطروحات الجمهوريين أنفسهم. ولكن أغلب الظن أن المشرعين الجمهوريين الذين يتحكمون في مجلسي الشيوخ والنواب، لا يمكن بأي حال من الأحول، أن يصادقوا على ما يرونه ضربا للثوابت المشتركة لأمريكا. بل إنهم يملكون حق إقالة الرئيس نفسه، إذا ما رأوا أن استمراره في موقع الرئاسة قد يهدد تلك الثوابت. ولمزيد من الطمأنة يؤكدون أن ترامب، قد عدل الكثير من تصريحاته بمجرد ما تم انتخابه رسميا، وبالتالي فالتتويج الرئاسي قد ينتج عنه ترامب جديد.
الميزة الثنائية لصعود الرئيس الجديد، ترتبط بما يعتبر تناقضات سلوك وخطاب ترامب نفسه. ذلك أن الرجل واضح في إعلانه الحرب على تنظيم "داعش"، مثلما هو واضح في دعم إسرائيل، التي وعدها بنقل عاصمتها إلى القدس. هو مع الحرب ضد الإرهاب في الشرق الأوسط، دون أن يمنعه ذلك من إعلان حرب مكشوفة ضد السود والمهاجرين والأقليات الإثنية، وهو مناهض لقضايا النساء، ومتورط في نفس الوقت في الشغف بمبدإ الإدمان عليهن بالزواج وبدونه، وهو مدعم لصفحة جديدة مع روسيا، ومناهض في ذات الوقت لإيران وللاتفاق النووي الموقع معها.
غير أن مثل هذه الميزات لا تستبعد اطلاقا، فكرة أن أمريكا، توجد في المنعطف اليوم، إذ رغم ما يمكن أن يعتبر عائقا تشريعيا داخل المجلسين، ورغم كل التعديلات الشفوية التي بدأ يطلقها ترامب بعد نجاحه، فالمؤكد أن الرجل قد أزعج العالم، ويكفي أن نستعيد ردود فعل القوتين العظميين في الاتحاد الأروبي (ألمانيا وفرنسا) إزاء صعوده، وهما تستعيدان تهديداته المرتبطة بمآل اتفاقية التجارة الدولية مع الاتحاد الأوربي نفسه، ومآل العلاقة مع الحلف الأطلسي. وكان آخرها القلق الذي زرعه في صفوف المتناظرين في قمة التغيرات المناخية المنعقدة مؤخرا في مراكش، إضافة إلى التفاعلات الأخرى، مثل مناداته ببناء جدار حدودي مع المكسيك بتمويل مكسيكي، ومطالبته بالتعويض عن حماية اليابان وكوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية من الأخطار التي تهددها من داخل المحيطين الإقليمي والدولي.
قُبيل دخوله إلى البيت الأبيض، ظهرت وثائق تفيد بإمتلاك جهاز الأمن الفيدرالي الروسي تسجيلات تثبت انخراط دونالد ترامب، في "حفلات مشبوهة" - علي حد تعبير الوثائق- وابتزاز الكرملين له من خلالها، وهو ما نفاه ترامب. هذه الوثائق التي تعد سابقة في تاريخ أمريكا السياسي، ظهرت بعد اتهام باراك أوباما، روسيا بالتدخل في الانتخابات الأمريكية، وهو ما أقر به ترامب للمرة الأولى في أول مؤتمراته الصحفية. ويبقي السؤال هل يمكن لهذه القضية أو غيرها أن تؤدي للإطاحة بالرئيس المنتخب؟ هذا السؤال طرحته أيضا، صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية. والتي قالت إن إقالة الرئيس الأمريكي، ممكنة في ثلاث حالات فقط، الخيانة العظمى والفساد والجرائم الخطرة. وأضافت، لا أحد يعرف ما إذا كان ترامب سيكمل ولايته أم لا، فهذه هي المرة الأولى التي يعاني فيها الرئيس الأمريكي من انعدام الشفافية، سواء من حيث التضارب المحتمل في المصالح أو بسبب افتقاره للخبرة السياسة. وأشارت الصحيفة، إلى أنه حتى الأن لا يمكن التنبؤ بأي شيء، فمع عدم وجود أدلة دامغة، سيكون من المستبعد جدا عدم إكمال ترامب ولايته الرئاسية. علي الرغم من وجود العديد من القوى السياسية والمؤسسية في واشنطن، ترغب في احترام النظام الانتخابي، ولا أحد يجادل في الامتثال لشرعية العملية الانتخابية التي أدت إلى فوز ترامب. وفي كل الأحوال فإن جميع الحالات التي تؤدي لإقالة الرئيس الأمريكي، تستلزم دلائل قاطعة لا ترد، وإرادة سياسية قوية داخل الكونجرس، الجهة الوحيدة المخولة بهذا الأمر، إضافة إلى تيار قوي في الإعلام والرأي العام.
وحسب مراقبين، فإنه من المرجح، إكمال ترامب ولايته الرئاسية، لكن مدة سنواته الأربع في البيت الأبيض، قد تكون معقدة بالنسبة للولايات المتحدة والعالم أجمع. على كل حال، فإن أمرا واحدا قد بات مؤكدا، وهو أن الرئيس الأمريكي، في حالة بقائه، سيكون مجبرا على اتباع سياسة أكثر واقعية وتصالحا مع مؤسسات الدولة. أما ما ستسفر عنه مقاربة ترامب، الجديدة بخصوص مستقبل المنطقة، فهو السؤال الذي ستجيب عنه التحولات والمنعطفات القادمة.
لمزيد من مقالات ابراهيم النجار; رابط دائم: