في البداية هل يحق لنا أن نتسأل، أين "عقلنا" العربي من مجتمع المعرفة الذي أصبح عنوان القوة والحضور في هذه الحقبة المهمة من الزمن؟ وهل سيظل في سباته حتي حين؟ في الوقت الذي يعرف فيه مجتمع المعرفة، حركة تحول وتطور سريع لا يعرف إلى أين تقود العقل البشري؟ فكثيرا ما نفخر نحن العرب بمفكرينا العالميين من أصول عربية، ولا سيما ذائعي الصيت منهم في الغرب، وفي العالم عموما، والتي أصبحت أعمالهم الفكرية موضع تداول وسجال كبيرين، ومن ثم نري في ذلك دليلا قاطعا على أن "عقلنا" العربي، قادر وبشكل كبير على مجاراة العقول الكبيرة في العالم، نبوغا وعطاء وحضورا، بيد أن الأمر، وللأسف الشديد لا يتجاوز دائرة " الفخر والتباهي ".
لاشك أن منطقتنا العربية مازالت أكثر المناطق التي تعتبر طاردة لعلمائها وكفاءاتها من المهندسين والأطباء وعلماء الذرة والفضاء، وما زالت أكبر نسبة مهاجرين في العالم تخرج منها، وتقدر نسبة العقول المهاجرة من الذين يتركون المنطقة بـ 50% من هؤلاء الكفاءات.
ربما تكون الصراعات في الشرق الأوسط، وقلة أماكن العمل دفعت بالكثير من العرب إلى الهجرة إلى دول أكثر تطورا، أوإلى الدول التي يمكنهم فيها أن يجدوا ملاذا آمنا من العنف والعيش بحرية في ظل القمع والفوضى اللذان ضربا دول "الربيع العربي"، بعد الثورات الشعبية، ولعل المعطيات الجديدة للبنك الدولي والجامعة العربية، تؤكد وتشير بما لا يدع مجالا للشك، إلى نسبة هجرة مرتفعة جدا من العقول، أوالأدمغة العربية، التي يقصد بها كبار العلماء والمخترعين والكفاءات في كافة المجالات، ما يعتبر أكبر عملية تجريف مستمرة للعقول في العالم العربي.
ووفقا لهذه التقارير، فقد بلغ عدد المهاجرين في العالم العربي حتى اللحظة، أكثر من 30 مليون مهاجر، وهناك ازدياد مضطرد في هذا العدد. وهنالك ما يقارب 20 مليون مهاجر من الشرق الأوسط يعيشون حول العالم، أي أن 5% من مجموع سكان العالم العربي، قد هاجروا من الشرق الأوسط، أغلبهم من مصر والمغرب، الدولتان اللتان يهاجر منهما أكبر عدد من المواطنين إلى دول أُخرى حول العالم، وتليهما فلسطين، العراق، الجزائر، اليمن، سوريا، الأردن ولبنان. وبحسب التقارير أيضا، أثرت أحداث "الربيع العربي"، والثورات الأخيرة التي اندلعت في بعض الدول العربية، تأثيرا كبيرا على عدد المهاجرين واللاجئين، حيث هاجر كثيرون من سوريا، ومن دول أُخرى تشهد صراعات دموية، ولذلك هناك تقديرات بأن اللاجئين في المنطقة يشكلون نسبة 65% من النسبة الكلية للمهاجرين في الدول العربية.
الخطير في الأمر، وحسب بعض التقارير، والتي تصف التقدم والتفوق العلمي والتكنولوجي الإسرائيلي علي العرب، بأنه " كارثة جديدة تهدد مستقبل الشعوب العربية "، لأن إسرائيل تفوقت في السباق العلمي مع العرب، عن طريق إغراء العلماء الأوروبيين والأمريكيين وتوطينهم داخل إسرائيل، في الوقت الذي تتزايد فيه هجرة العلماء العرب إلى الخارج، وفشلت الدول العربية حتى الأن في استعادتهم أوالاستفادة منهم. في الوقت الذي حذرت فيه الجامعة العربية، من خطورة هذه الظاهرة على مستقبل الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في الدول العربية، بعد أن احتلت إسرائيل المرتبة 24 بين الدول المتقدمة، والمرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، في مجال الأبحاث والقدرات العلمية، وكذلك المرتبة الرابعة بعد اليابان وأمريكا وفنلندا في استيعاب التطورات التكنولوجية. فضلا عن أن الدول الغربية هي المستفيد الأكبر من احتضان أكثر من 450 ألف عربي من حملة الشهادات والمؤهلات العليا، حيث تستخدم قدراتهم في دعم مشروعاتها التكنولوجية، وتؤكد في السياق ذاته، أن 54 % من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، وأن 34 % من الأطباء الأكفاء في بريطانيا من العرب، كما أن هناك 75 % من الكفاءات العلمية العربية بالفعل في ثلاث دول تحديدا أمريكا وبريطانيا وكندا. ويساهم الوطن العربي بـ 31 % من هجرة الكفاءات من الدول النامية إلى الغرب، وبنحو 50 % من الأطباء، و23 % من المهندسين و15 % من العلماء النابهين.
واقع الأمر أن الأمثلة كثيرة، وهذا غيض من فيض، غير أن السؤال الكبير في هذا الصدد، لماذا لم يستفد الفكر العربي، كما يجب أن يستفيد، من هؤلاء العلماء والمفكرين؟ كلا في مجال تخصصه، وإلي متي سيبقي الحال هكذا؟ ولماذا لا يزال المهتمون بالقضايا الفكرية في بلداننا بعيدين عن الانشغال بهذا الملف الشائك.
لمزيد من مقالات ابراهيم النجار; رابط دائم: