الحكايات فى مصر القديمة مثيرة وغريبة ولا تقف عند حدود ، وفى كل صفحة نطويها من صفحات التاريخ مفاجآة أو ربما عدة مفاجآت .. بعضها مفرح والأخر محزن أو غريب ، ولكنها فى النهاية لا تنتهى ، فهى بعدد حبات الرمل وأمواج البحر وزخات المطر ،
وهى حكايات متنوعة ولا تسير على وتيرة واحدة ، وحكاية هذا الأسبوع تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن للعقل الشيطانى جذورا فى مصر القديمة وإن الإرهاب له تاريخ طويل ، وإن المكر متأصل فى كل حقبة زمنية ، وأن صناعة القنابل اليدوية وترويع الآمنين وإلقاء التهم على الأخرين بالباطل موجود فى كل الأزمنة .. فقط علينا أن نفتش عن الخديعة والمكر وبالتأكيد بالبحث والتقصى سوف نجد أثارهما وهذا ما وجدته عندما فتشت عن تاريخ قصر الجيزة ..
والحكاية من البداية أن وثيقة هذا الأسبوع هى صورة رائعة الجمال عن “ قصر الجيزة “ إلتقطها المصور الفرنسي Felix Bonfils ومكتوب عليها واجهة ومدخل سرايا الجيزة ، وهى توضح مدخل القصر المكون من طابقين والمبنى على الطراز الإسلامى بمقرنصاته ووحداته المعمارية المميزة والذى يبدو واضحاً من الصورة أن المدخل أو الطابق الأرضى كان على شكل بواكى وقباب، أما الطابق الثانى فكانت شرفاته ونوافذه وحلياته من الخشب المخروط رائع الجمال والذى يشبه فى دقته “ الدانتيلا “ الرقيقة ، أما الحديقة أو بالتحديد الجزء الذى يبدو منها فى الصورة فيشير الى جمال ودقة تنظيمها ، ولشدة إنبهارى بهذه الصورة النادرة بدأت رحلة البحث والتقصى والقراءة عن هذا القصر لإكتشف معلومات هامة جداً وهى أنه كان أحد القصور الخديوية المميزة وبالطبع كان ضمن أملاك الخديو الأشهر إسماعيل إبن إبراهيم حفيد محمد على باشا، وله حكايات وقصص كثيرة أهمها وأخطرها وأطرفها فى نفس الوقت هو أن هذا القصر كان فصلاً فى صراع خفى بين الخديو إسماعيل إبن “ خوشيار قادين “ وإخيه الغير شقيق “ الأمير مصطفى فاضل “ إبن “ ألفت قادين “ فيقول الياس الأيوبى فى كتابه “ تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل “ أنه كان هناك كراهية بين الأميرين سرعان ما تحولت الى حقد بسبب كره والدتيهما المتبادل الذى كثيراً ما أزعج والدهما إبراهيم باشا بالإضافة الى وشى الوشاة بالأمير مصطفى فاضل بعد صيرورة عرش مصر الى أخيه إسماعيل ، فوالداتهما كانتا مختلفى الجنس والميول فلم تكتفيا بتبادل الكره بينهما بل أشربتاه قلبى ولديهما وإجتهدتا فى جعلهما عدوين لدودين لاسيما أنهما ولدتهما فى شهر واحد وكانت كل واحدة منهما تتمنى أن تكون الأسبق فى الوضع ليكون إبنها أقرب الى العرش فمال الحظ الى جانب أم إسماعيل ، فشب الصبيان والسنون تنمى بغض كل منهما للآخر حتى كانت كارثة مقتل الأمير أحمد رفعت أخيهما الثالث ليصبح إسماعيل هو ولى العهد ، فأصبح الأمير مصطفى فاضل وأمه يتمنيان طول العمر لسعيد باشا عمه ووالى البلاد أو قصر العمر لإسماعيل أخوه حتى لا تتحقق أحلامه فلم يحقق الدهر لهما هذه الأمنية فمات سعيد وإرتقى إسماعيل عرش جده وهو فى مقتبل عمره ، فلم يحتمل الأمير مصطفى فاضل وذووه الحياة تحت حكمه وسافر سنة ١٨٦٣ الى باريس وأدى هذا البعاد الى تراخى حبل الضغينة بين الأخوين.
ولكن الوشاة لم تكن مصلحتهم أن يسود الوفاق بينهما فأخذوا يختلقون الأكاذيب على الأمير الغائب مما زاد من كره إسماعيل لأخيه بل أنهم صوروا ذلك الأخ النازح فى صورة الرجل المتآمر الساع الى إهلاك أخيه لكى يأخذ منه عرشه وبلغ حبهم للخداع والدسائس الى حد أن ألقوا قنبلة سراً ذات صباح فى حديقة قصر الجيزة وأسرعوا الى إلتقاطها جهراً وتقديمها الى إسماعيل حجة دامغة وبرهاناً قاطعاً على صحة مؤمرات ومساعى أخيه الشريرة ، فلم يفطن إسماعيل الى أن تلك القنبلة كانت فارغة ( هيكلية ) وإعتقد إن أخاه أراد قتله ليخلفه على العرش ، فأرسل أواخر ١٨٦٤ الى أخيه فى باريس لشراء أملاكة ليقطع عليه طريق العودة الى مصر فرفض ، وفى نفس الوقت إجتهد إسماعيل لدى السلطان العثمانى عبد العزيز ليفوز بفرمان ولاية العرش لإكبر أبنائه.
وعندما نجحت مساعيه عرض شراء ممتلكات أخيه من جديد فلم يجد الأخير مفراً من القبول بعد زوال أحلامه فى عرش مصر فتم البيع فى ٢٢ نوفمبر ١٨٦٦ بمبلغ مليونان وثمانون الف جنية إنجليزى .. وبهذا تكون هذه القنبلة الهيكلية التى وضعها الوشاة والحاقدون هى السبب فى قطع أى صلة بين الأخين من جهة وبين الأمير مصطفى وممتلكاته وأراضيه من جهة أخرى .
وتقول الكاتبة الصحفية مايسة السلكاوى فى كتابها “ حكايات من زمان “ أن قصر الجيزة كان أعجوبة زمانه فعلى الرغم من ضخامة ماتم إنفاقة على سراى الجزيرة إلا أنه يُعد ضئيلاً إذا ما قورن بما تم إنفاقه على سراى الجيزة ، فقد كان قصراً صغيراً بناه سعيد باشا وبعد موته إشتراه الخديو إسماعيل من إبنه “ طوسون “ وكان يشغل مساحة ٣٠ فدانا ، إلا أن إسماعيل هدم القصر وأعاد بناءه وفرشه وجاء بمتخصصين فى تنظيم البساتين من الأستانة ، فإلى جانب الأشجار والزهور المتنوعة والفريدة كانت هناك أكشاك الجلوس للإستمتاع بالمناظر الخلابة وأقفاص للطيور النادرة ، فكانت حديقة قصر الجيزة على غرار حديقة سراى الجزيرة ولم يكتف الخديو بتلك المساحة بل زاد فيها بإتجاه النيل .. وبلغ ماتم إنفاقه على سراى الجيزة مليوناً و٣٩٣ الفاً و٧٤ جنيهاً مصرياً ويُعتبر هذا المبلغ أكبر ما تم إنفاقه على القصور والسرايات بما فى ذلك سراى عابدين ..وللحديث بقية عن سراى الجيزة التى كانت أعجوبة زمانها وإستُخدمت فى وقت من الأوقات كمتحف للأثار المصرية بعد متحف بولاق ثم هُدمت وإنضم جزء من حدائقها الى حديقة حيوان الجيزة .. والله .. الله على مصر زمان .
رابط دائم: