الراجل ده كان عنده دماغ فنان ، دماغ حساسة ورُهيفة وعاشقة للفن والجمال .. الراجل ده كان مهووس بالحلاوة والأناقة والشياكة والفن والرقي ، “ دماغه متكلفة متظبطة بالبلدي كدة ..دماغ مزيكا وفنون “ والكلام هنا عن الخديو إسماعيل بن إبراهيم حفيد محمد علي باشا ..
وإذا كان عشق الجمال والفن والموسيقي تهمة وجريمة فلنحاسبه علي إسرافه وبذخه ، ولا يجوز أن نطلق عليه في هذا المقام “ سُمعه “ وهو الإسم الذي أُحب أن أستخدمه عند الكتابة عنه أو “ أبو السباع “ وهي الكُنية التي إنتشرت بفضله علي إسم إسماعيل حينما جلب السباع الأربعة لحراسة كوبري قصر النيل .. كانت هذه هي الأفكار والخواطر التي دارت برأسي وأنا أستعد لكتابة حكاية هذا الأسبوع بعد أن وقعت في يدي صفحة من أحد أعداد جريدة Le Monde Illustre` الفرنسية عام ١٨٦٨ وبها صورة عريضة مرسومة بالفحم لمبني المسرح الفرنسي الجديد الذي أنشأه في القاهرة ( نائب الملك أو Le Vice Roi ) أي الخديو إسماعيل وقتها وقد كان يلقب خارجياً بنائب الملك أو نائب السلطان عبد العزيز وهي لوحة رسمها أحد الفنانين ويُدعي ( أد دار Ad` Dar ) و تقدم تفاصيل جميلة لمبني بسيط علي الطراز والعمارة الإسلامية ، تعلوه قبة ومكون من طابقين ومكتوب علي مدخلة كلمات يغلب الظن أنها بأحرف عربية ومدخله يرتفع عن الأرض ببضع درجات وتعلوه مظلة أنيقة والمبني نفسه يقع وسط ساحة واسعة وتحيط به الأشجار والنخيل ، ومن بعيد تبدو بعض المباني ومآذن المساجد وقبابها وفي محيط المسرح أشخاص مترجلون وبعضهم علي ظهور الجمال أو الحمير وهي وسيلة المواصلات في هذا الوقت .. بإختصار لوحة مريحة للأعصاب ترصد شكل الحياة في القاهرة البسيطة في القرن التاسع عشر وخاصة منطقة الأزبكية المعروفة ببركتها وبساتينها الخضراء .. ثم نشرت الجريدة رسالة أرسلها “ أد أدار “ الي مدير التحرير يقول فيها “ أرسلت لكم الرسم ( الكروكي ) للمسرح الذي أقامه نائب الملك في القاهرة وهو مبني يتسم بالبساطة ويتميز بطابعه الشرقي كما أن القبة التي تعلوة تعطي الإيحاء بأنه مسجد عربي محاط بباقة من شجر الجميز .. وعلي عكس تأكيد بعض الجرائد الصادرة في باريس ، والتي بلاشك تم منحها بعض المعلومات المغلوطة عن أن تكاليف هذا المبني كانت باهظة ، فأنني أستطيع أن أقول أن تكاليف إنشائه لم تتعد ٢٠٠ أو ٣٠٠ الف فرنك فرنسي و لكن في إعتقادي أن المبني الحالي ما هو إلا مبني مؤقت ولابد من إعادة بنائه في خلال عامين أو ثلاثة في مكان مجاور ولكن الديكورات الداخلية تمت بنجاح ولم تترك شيئاً يخطر علي البال إلا وتم إقامته ،كما تم إستقدام عمال وحرفيين متخصصين لإعداد صالة العرض بالديكورات التي سوف تتناسب مع العروض المزمع إقامتها خلال العام المسرحي وحتي نهاية شهر مايو ١٨٦٩ حسب الجدول الذي تم إعداده مع الفرق الفنية ..
ويمكن القول أن البداية الموفقة والناجحة للإفتتاح سوف تلقي الترحيب في مصر التي كانت تتبع النظام المسرحي اليوناني الذي يعتمد علي الأعمدة علي جانبي المسرح مع توفير عمق ومنظور يسمح بتناول الأعمال الفنية .. وقد سبق أن أخبرتكم في رسالتي السابقة أن إفتتاح المسرح تم يوم ٤” يناير بعرض موسيقي “ أوفنباخ “ وبحضور الجميلة هيلين “ وهو ما يُعتبر بداية موفقة وفأل حسن لمدير المسرح السيد “ منسي “ M.Manasse ، وقد صفق حاضروا العرض الأول والذين دعاهم الخديو إسماعيل للمغنية الأولي الأنسة “ ماري روزياس “ التي أدت دور “ شنايدر “ بمنتهي النجاح ، وهاهي المغنية التي طالما إستحسن الجمهور الفرنسي لأدائها الموسيقي والدرامي في الأوبرا تؤدي هذا النوع من الفنون بنجاح أيضاً ، كما يجب أن نعترف أيضاً بنجاح التينور “السيد بيجيه” في دوره أيضاً والذي يتميز بصوت نقي وجميل .. ثم إختتم السيد “ أد أدار “ رسالته قائلاً “ وفي النهاية لا أرغب في إطلاق الأحكام العاجلة علي المسرح وعروضه رغم النجاح الذي تم إلا أنها مجرد البداية ولكني أمُني نفسي أن يستمر النجاح حتي النهاية “ .
و” مسرح الأزبكية “ كما تقول المصادر كان يسمي من قبل تياترو حديقة الأزبكية وقد أمر بإنشائه الخديو إسماعيل ليكون على مقربة من الأوبرا التي صمم معمارها ومعمار المسرح مهندس إيطالي لتحقيق حلمه بجعل القاهرة أشبه بالعواصم الأوربية، وقد بدأ العمل في المبني في ٢٢ نوفمبر ١٨٦٧وإفتتح في ٤ يناير١٨٦٨ تحت إدارة الخواجة منسي.وقد ظل «تياترو حديقة الأزبكية» هو المكان المفضل للفرق المسرحية الأجنبية الزائرة بالإضافة لعدد من الفرق العربية .
ثم تقرر هدم المسرح القديم وتشييد أخر جديد وتم ذلك بالفعل خلال عامى١٩١٩ - ١٩٢٠ وإفتتح المبنى الجديد أول يناير ١٩٢٧ بعرض أوبريت “ هدى” من تلحين سيد درويش .
ورغم تغير إسم المسرح الي «المسرح القومي» عام ١٩٥٨ إلا أن الكثيرين مازالوا يطلقون عليه إسم مسرح الأزبكية .
ويقول الياس الأيوبي في كتابه “ تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل “ أن “ الكوميديا “ - وكان هذا إسمها - شُيدت بالأزبكية في ٢٢ نوفمبر ١٨٦٧ وقد كان يوجد مكانها ومكان الأوبرا أختها بيوت صغيرة حقيرة فإقترح الخديو إسماعيل علي أصحابها أن يبيعوها له فرضي بعضهم وأبي أخرون ولكنه حدث أن حريقاً إلتهم بيوت الرافضين فإشتري الخديو منهم الأرض بالثمن عينه الذي كان قد عرضه عليهم في البيوت وهي قائمة وشرع يبني مسرحه فوقها وإحتفل بإفتتاح الكوميديا في مساء ٤ يناير ١٨٦٨ فكان إنشائها وتأسيسها وتجهيزها وإقامة أول تمثيل فيها قد تم في ظرف شهر وإثني عشر يوماً ومع أنها كانت في بادئ أمرها عبارة عن بناء خشبي فإن إبرازها للوجود بمثل هذه السرعة لم يكن يخلو من شئ يعجب له إعجاباً كبيراً ، فزيادة علي ما إستوجبه من الدقة المدخلان الذان تما فيها أحدهما حديدي علي الشمال للخديو والأخر حديدي علي اليمين للحرم المصون وأميرات البيت المالك ، فإن داخل المسرح كان فخماً جداً مزيناً بأبهي الرسوم وبادياً علي كل شئ فيه بذخ فائق لا سيما فيما يتعلق ب ( لوج ) الخديو والألواج الثلاثة المغطاه المعدة لأميرات أسرته ، وقد كان نتيجة إنشاء المسرح والأوبرا أن الجمهور القاهري وعلي رأسه الخديو وأمراء بيته وأميراته والباشوات والسراة أصبحوا يرون لذة حضور التمثيل المعروف بالميلودرام وأصبحوا يستقدمون سنوياً جوقة أوروبية لهذا الغرض وينفقون عليها مبالغ طائلة حتي أن بعضهم قدر ما صرف علي إحدي هذه الجوقات ١٢٠ الف جنية حسب كلام الأيوبي .. وبلغ من تفنن مديري الكوميديا والأوبرا في إرضاء الجمهور أنهم أخذوا يستقدمون النقاد الفنيين ليكتبوا المقالات الإنتقادية الجميلة في التمثيل والممثلين فيعملوا علي تحسين الفن وترقية وكفاءة القائمين به .. وبعد عزيزي القارئ فهل تري ما فعله الخديو إسماعيل بذخ وسفه أم دعوة للفن والجمال والموسيقي ، و الله .. الله علي مصر زمان .
رابط دائم: