رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
فوجئ سكان عمارتنا الواقعة فى الحى الشعبى العريق بالحاج «عبد الشافي» وزوجته يخرجان من شقتهما حاملين معهما صوانى «الكحك» فى الطريق إلى الفرن، تمهيدا لتجهيز ما لذ وطاب لعيد الفطر المبارك، الذى كان قد اقترب! أصيب سكان العمارة بالذهول والاستياء معا وهم يتابعون هذا المنظر، ففى تلك الأيام تحديدا، أى فى النصف الأخير من شهر رمضان، كانت مصر تخوض حربا شرسة مع إسرائيل وأمريكا معا، إبان الجسر الجوي، وكان شهداؤنا يسقطون، وكانت الأعصاب مشدودة وهى تتابع تطورات الأنباء من على الجبهة، وكان الوضع أشبه بمباراة تقدمنا فيها بجدارة، ولكنها لم تنته بعد. فى تلك الأيام، لم يكن هناك مجال للاحتفال بالعيد والملذات، ولا للكحك بطبيعة الحال، فحصص الدقيق والسمن والسكر كانت «يادوب» تكفى احتياجات الناس الأساسية، بل الأساسية جدا، كما كانت هناك تعليمات مشددة من الدولة بأن يقتصر عمل الأفران على إنتاج الخبز البلدى «فقط لا غير»، لأن طاقتها لا تستوعب القيام بأكثر من ذلك، فكل شيء وقتها كان محسوبا بالورقة والقلم، وكان الناس على علم بأن هناك مخزونا استراتيجيا من السلع قارب على النفاد، ومع ذلك كانت البطون راضية، والعقول قانعة، والقلوب والضمائر سعيدة وواعية ومستيقظة، وتؤمن تماما، وبشكل عملي، أن الموت جوعا، أشرف وأكرم، من هزيمة وطن واحتلال أرض! كان تصرف «عبد الشافي» فرديا، ونادرا فى ذلك الوقت، ولهذا، لاحقته عبارات السخرية والاستياء وهو فى طريقه مع زوجته إلى الفرن حاملى صوانى الكحك على رأسيهما، إلى أن عادا مع «زفة الصواني» كما هي، بعد أن رفض الفرن بطبيعة الحال تلبية طلبهما، ولاحقتهما عبارات الشتم واللعن والتخوين من المواطنين الشرفاء الذين كادوا أن يفتكوا بهما ويلقون صوانى الكحك فى أرض الشارع، لولا تدخل «أولاد الحلال»! هذه الواقعة حقيقية تماما، وتفاصيلها بالكامل جرت أمام عينى صغيرا إبان الحرب، ويذكرها أهل حينا جيدا، ولا أبالغ إذا قلت إن سكان العمارة والحى لم ينسوا هذا الموقف من عبد الشافى وزوجته، لدرجة أنه تم فرض ما يشبه الحظر أو المقاطعة عليهما لفترة بعد انتهاء الحرب بسنوات! وقتها، كان هناك شعب يقاتل، ويصبر، ويرابط، ويتقشف، ويتعاون، لا شعبا يأمر، ويطلب، ويشكو، ويهدد، ويثور، ويملأ البطون! وقتها كانت المدارس متوقفة، وكان كثير من الناس لا يذهبون إلى أعمالهم، وكانت المصالح معطلة، ولذلك كانت المقاهى تعج بالزبائن صباحا، لا لتناول المشروبات و«التسلية» كما يدعى الظرفاء، ولكن لقراءة الصحف اليومية، والاستماع إلى البيانات العسكرية فى الراديو، لمعرفة آخر أخبار المعركة، والاطمئنان على جيشنا على الجبهة. وقتها كانت الإذاعة تبث أغنيات «بسم الله»، و«أنا على الربابة»، و«سمينا وعدينا»، وابتهالات النقشبندى على الإفطار، ولم يكن هناك محللون ولا معلقون ولا «توك شو»، فقد اختفوا تماما مثلما اختفى اللصوص من الشوارع أيامها، وكان التليفزيون أيضا يبث فقرات محدودة جدا على مدى اليوم، وينهى إرساله مبكرا، وكانت معظم البيوت تطفئ الأنوار مساء، وتطفأ إجباريا بالكامل وقت سماع أصوات صفارات الإنذار، ليهرول الجميع إلى المخابئ أسفل العمارات، ولا تسمع من المجتمعين من شيوخ ونساء وأطفال فى المخبأ إلا الحديث عن أحوال المعركة، والدعاء للجنود، فلا متذمرين، ولا محبطين، ولا شعب يطلب، ولا شعب يأمر، بل كنا شعبا بحجم الوطن «بجد»! .. فى حرب أكتوبر كان هناك عبد الشافى «واحد»، أما الآن, ففى حرب «الربيع»، كلنا «عبد الشافى»! لمزيد من مقالات هانى عسل