الإيمان أصل الدين وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهو من الأمور التى تلقتها الأمة عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا مدخل للناس مطلقًا فى أن يحكموا فى هذا الأصل بأهوائهم وظنونهم. نعم حقيقة الإيمان جلية لا لبس فيها، فمعناها فى لغة العرب التصديق مطلقا، ومن ذلك قول الله تعالى حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [يوسف: 17]، أي: ما أنت بمصدق لنا فيما حدثناك به عن يوسف والذئب.
ولم تخرج حقيقة الإيمان فى المعنى الشرعى عن المعنى اللغوى لها؛ فإنها وردت فيه بمعنى التصديق، ودليل ذلك قول الله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة: 285]، وقول النبى صلى الله عليه وسلم إجابةً عن سؤال جبريل عليه السلام عن ماهية الإيمان: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»، ومعناه التصديق القلبى بكل ذلك وبغيره مما وجب الإيمان به.
ومن ذلك تتجلى حقيقة الإيمان وتتضح علاقتها بالأعمال والتكاليف الشرعيَّة، التى تتلخص فى كون العمل مظهرًا للإيمان وشرطَ كمال له، ومن ثَمَّ فالمخالف للأمر والنهى الشرعيين يكون عاصيًا وآثمًا لمخالفته فى الفعل والترك، لكن لا تنزع عنه مخالفته تلك وصفه بالإيمان والآثار المترتبة على ثبوته له. وهذه المعانى تمثل سمات مميزة لأهل السنة والجماعة فى هذه القضية عن غيرهم من الفرق والمذاهب الأخرى، وهو موقف مؤيد ببراهين ساطعة وأدلة قاطعة محكمة، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48]، وقوله صلى الله عليه وسلم فى إثبات أصل الإيمان الواجب: «أتانى جبريل فأخبرنى أنه من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة»، قال أبو ذر رضى الله عنه: يا رسول الله، وإن زنى وإن سرق، قال صلى الله عليه وسلم: «وإن زنى وإن سرق».
بل إنه قد ورد فى الخبر الصادق عن النبى ما يؤكد أن الإيمان الذى يقرره أهل السنة والجماعة منقذٌ من النار، فعن أنس رضى الله عنه، قال: كان غلام يهودى يخدم النبى صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبى يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: «أسلم»، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذى أنقذه من النار». ولا تعارض بين ما سبق وبين ما ورد من قول السلف: «الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان»، فإن الأعمال أجزاء داخلة فى مفهوم الإيمان، لكن لا يلزم من عدمها عدم الإيمان، كما أن الإيمان يزيد وينقص بزيادة ثمراته ونقصانها وهى الأعمال. ونصل بعد تقرير هذه الحقائق إلى أنه لا يحل تكفير مسلم بذنب اقترفه، سواء كان الذنب ترك واجب مأمور به أو فعل محرم منهى عنه، وأن من يكفر مسلما أو يصفه بالفسوق يرتد عليه هذا الوصف إن لم يكن صاحبه على ما وصف، وأن الحكم بالكفر على مسلم مُعَيَّن يستتبعه مجموعةٌ من الآثار شديدةُ الخطر، لذا اختص بذلك القاضي، ولا يجوز لغيره التجرؤ والافتئات عليه فيه، لما فى ذلك السلوك من المخاطر الشديدة، على الفرد والمجتمع. فظهر بذلك أن ما ترتكز عليه كثير من التنظيمات والجماعات المنتسبة إلى الإسلام من تكفير لعموم المسلمين وما يرتبون على ذلك من استحلال دمائهم الزكية وأعراضهم المصونة وأموالهم المعصومة مخالف للشرع الحنيف جملة وتفصيلا، فضلا عن التسبب المباشر فى فساد الأمة ونشر الباطل، وإشاعة الفتن العمياء والنزاعات المهلكة بين المسلمين، وتمكين الأعداء منهم. والواجب على العارف بالدين أنه إذا رأى من ينقص عمله أن يأخذ بيده بالرفق والنصيحة والتعليم والصبر عليه حتى تزداد شعب إيمانه؛ وليس واجبا على الناس تكفير غيرهم ممن ثبت له مفهوم الإيمان بالمعنى الذى ذكرناه (وما يعقلها إلا العالمون) .
لمزيد من مقالات د شوقى علام رابط دائم: