" ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم " جملة من أشهر اقوال الامام الشافعي -رحمه الله- للدلالة على عظم وأهمية التعلم والتعليم وهو ما اهتم به حكام مصر منذ قديم الأزل وحتى العصر الحديث ، بداية من محمد على باشا وحتى يومنا هذا ،
ولكن التعليم زمان وقبل التوسع فى إنشاء المدارس الإلزامية وإنشاء مدارس البنات وبناء الجامعات وعلى رأسها جامعة الملك فؤاد الأول وغيرها من الجامعات وإرسال البعثات التعليمية الى الخارج كان يعتمد على الكُتاب والذى يرجع تاريخه الى سنوات بعيدة وكان يعتبر المكان الأساسى لتعليم الاطفال حفظ القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة ومنه خرج أشهر قراء القرآن الكريم فى مصر والعالم العربى .
وحكاية هذا الأسبوع عن الكُتاب من خلال مجموعة من الصور التقطها مجموعة من المصورين والرحالة الأجانب و أشهرهم " ليكيجيان " فى أوائل ومنتصف القرن الثامن عشر تنقل وبوضوح حالة التعليم فى مصر من خلال الكتاتيب التى كانت تنتشر فى كل شوارع وأزقة وحوارى البلاد وتتزايد في الأرياف والكفور والنجوع لتربط الطفل المصرى بدينه وبالعلوم الدنيوية من مبادئ حساب وعلوم وغيرهما من المواد ، و الكتاتيب كما توضحها الصور كانت تقام في أجزاء متصلة بالمساجد أو مبان مستقلة أو في بيوت معلمي الكتاتيب أنفسهم أو أمامها، حيث كان المعلم يجلس على كرسي أو مصطبة مرتفعة عن الأرض، أما التلاميذ فكانوا يجلسون أمامه على الأرض المفروشة بالحُصر، وكان المعلم أو الشيخ يحمل في يده عصا أو " خيزرانة " يلسع بها الطالب البليد أو المتكاسل ، وكان الطلاب الصغار يرتدون الجلباب وطاقية أوعمامة صغيرة أما الأكبر سناً فكانوا يرتدون الطرابيش وكانت المصاحف توضع بينهم للقراءة على قواعد مرتفعة من البوص أو الخوص ... وكان الطالب فى الكُتاب يشعر بأنه يقوم بعمل جليل وهو حفظ القرآن الكريم وتلقى العلوم الفقهية مما يؤهله ليكون شيخاً أو قارئاً للقرآن وبالتالي كان يحترم شيخه ويبجله حيث إنه مفتاح هذه العلوم وبوابة الدخول الى مستقبل كبير .
والكتاتيب كما يقول التاريخ قد بدأ ظهورها في الدولة الإسلامية منذ العصر الأموى ، أما في الحضارات السابقة فقد وجدت كتاتيب ملحقة بالمعابد الفرعونية وعرفت باسم «مدرسة المعبد» وكانت تمنح شهادة للدارس تسمى كاتب تلقى المحبرة ، وفي العصر المسيحى استمرت الكتاتيب أيضا لتعليم أجزاء من الكتاب المقدس.
وقد عُرف معلمو الكتاتيب بالمؤدبين والمشايخ ويساعدهم العرفاء واقتصرت مناهجها على القرآن والحديث ومبادئ القراءة والحساب وتحمل أولياء الأمور نفقات تعليم الأبناء به ، وبعد انتشار التعليم دخلت الكتاتيب في منافسة شرسة وغير متكافئة مع دور الحضانة والمدارس وأصبح دورها مساعداً وليس أساسياً في العملية التعليمية ولكن الشىء المؤكد أن فكرة الكتاتيب تمتاز بالبساطة وقدمت للبلاد خدمات جليلة فقد كان خريجوها نواة المعاهد الأزهرية وبهم بدأ محمد على باشا نهضته التعليمية في مصر الحديثة ، ومن مشاهير خريجي الكتاتيب رفاعة الطهطاوي وعميد الأدب العربى طه حسين . وقد كثرت النوادر عن معلمى الكتاتيب حتى قيل إن معلم الصبيان لم يكن يؤخذ له بشهادة أمام القاضى ، ولقلة ما يتحصلون عليه للمعيشة قد دفع ذلك أولياء أمور الطلبة لمنحهم القليل من المال أو حتى الطعام مثل البيض والخبز ، وقد لجأ بعضهم للقراءة في المقابر على أرواح الأموات مقابل الصدقات ، ثم احترف بعضهم تلاوة القرآن بصوت حسن فأحيوا ليالي المأتم واستمر الحال حتى ظهر منهم مشاهير قراء العالم الإسلامي ، ولا ينكر أحد فضل الكتاتيب، ومن محفظي الكتاتيب من كان أديبا شاعراً كالشيخ أحمد شفيق كامل الذي صدحت أم كلثوم بقصائده مثل «أمل حياتي» و«أنت عمري» ، ومن مشاهير المحفظات في العالم الإسلامي من النساء في العصر الحديث الشيخة زينب محفظة قرية صراوة أشمون منوفية والتي خرجت الكثير من الحفظة وكرمتها مصر أكثر من مرة ، ومازالت هناك آثار للكتاتيب القديمة كما تقول مدونة " أراجيك " ففى قاهرة المعز يوجد عدد لا بأس به من الكتاتيب التي تعلو السُبل، مثل سبيل وكُتَّاب «عبد الرحمن كتخدا»، الذي بُني عام 1744 في شارع المعز لدين الله الفاطمي وهو عبارة عن سبيل يشرب منه المارة يعلوه كُتَّاب يتلقى فيه الطلاب العلم، وكُتَّاب «نفيسة البيضاء» بمنطقة السُكَّرية العتيقة بالقاهرة، ويرجع تاريخه إلى عام 1796، وصاحبته هي السيدة نفيسة البيضاء التي عُدَّت واحدة من أغنى نساء عصرها، كما عُرِفت بعلمها وثقافتها . وقد كان اليوم الدراسي في الكُتَّاب يبدأ مع شروق الشمس وينتهي بصلاة العصر، وكان أولياء الأمور يُحضِرون أطفالهم إلى الكُتَّاب ابتداءً من عمر ثلاث سنوات، أما أدوات التلاميذ فتلخصت في الأقلام والألواح الخشبية التي استخدموها في الكتابة عليها، ودوام الكُتَّاب كان خمسة أيام فقط في الأسبوع ويعطل في الأعياد وأيام البرد الشديد والعواصف والمطر الغزير، ويُذكر أن معلمي الكتاتيب كانوا يُنادَون بـ«المشايخ» أو «المؤدِبين» وكانوا يتقاضون أجراً قليلًا من أهالي التلاميذ لقاء تدريسهم لأطفالهم، يُدفع لهم أسبوعياً أو شهرياً، أو يتلقون أجورهم من حصاد زراعات أولياء أمور التلاميذ، والله على مصر زمان.
رابط دائم: