رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
لذا فقد قررت أن أكتب هذا الأسبوع عن تاريخ حفر قناة السويس ، وهو التاريخ الملئ بالحكايات الإنسانية بوجهيها السعيد والحزين التي سجلتها ريشة ورسومات الفنانين العالميين ومراسلي الجرائد الذين زاروا مصر منذ بداية المشروع وحتي إفتتاحة وسجلوا ما شاهدوه لحظة بلحظة بواسطة الفحم أو الحبر الشيني في صور و لوحات نقلتها الجرائد الفرنسية والإنجليزية والإيطالية وأصبحت تؤرخ لهذا المشروع العظيم في وقت لم يكن التصوير الفوتوغرافي منتشراً .. وبالطبع كانت البداية حينما سمع فرديناند ديليسبس بخبر وفاة عباس باشا والي مصر وتولي سعيد باشا سدة الحكم حتي ركب وابور البحر من فرنسا وأحلامه تسبقه بالحصول علي موافقة صديق العمر علي مشروع القناة ، وبالفعل وصل إلى الإسكندرية فى١٨٥٤ وقابله الباشا بحفاوة كبيرة وإصطحبه فى رحلة على رأس جيش كبير من الإسكندرية إلى مصر، إستطاع خلالها إثبات مهاراته في ركوب الخيل وكانت النتيجة أن منحه الباشا إمتياز حفر القناة . ثم عهد سعيد باشا إلى المهندسين لينان دى بلفون بك وموجل بك أن يرافقا ديليسبس لزيارة منطقة برزخ السويس لدراسة المشروع وتطبيقه على الأرض، فأصدر المهندسان تقريرهما والذي أثبت سهولة إنشاء قناة تصل بين البحرين . في ٢٥ أبريل١٨٥٩ إحتشد جمهور مكون ١٥٠ فرد ما بين بحار وعامل وضرب ديليسبس أول معول لحفر القناة ليبدأ الحفر في المشروع بواسطة ١٠٠ عامل زادوا إلى ٣٣٠ عامل مصري و٨٠ عامل أجنبي ، وفي أوائل عام ١٨٦٠ بلغ عدد العمال ١٧٠٠ عامل ولم يكن ذلك العدد كافياً فقامت الشركة بتشكيل لجنة لجمع العمال ( وهى التى أُطلق عليها السُخرة ) وبعدها طلب ديليسبس زيادة عدد العمال إلى ٢٥ الف عامل شهرياً إلا أن العمال لم يكونوا يحصلون على مقابل مادى مناسب. في عام١٨٦١ ركزت الشركة على إنشاء ميناء مدينة بورسعيد و قام الخديو سعيد بزيارة الميناء وأثنى على العمل . وفي ١٨ نوفمبر ١٨٦٢ أقام ديليسبس احتفالاً بمناسبة الانتهاء من حفر القناة البحرية المصغرة ووصول مياه البحر المتوسط إلى بحيرة التمساح. و في مارس ١٨٦٣ تم إنشاء محافظة القنال برئاسة إسماعيل حمدى بك ، ورغم أن العمل في المشروع كان يجري علي قدم وساق إلا أنه ظل يشغل بال الخديو إسماعيل فقال جملته المشهورة « أريد أن تكون القناة لمصر لا أن تكون مصر للقناة « وسعى لتخفيف شروط الإمتياز الذى حصل عليه ديليسبس والذى رأى فيه إجحافاً للمصريين وخاصة السخرة، وفي النهاية إرتضى الخديو تحكيم الإمبراطور نابليون الثالث ليصبح الخصم حكماً بإعتبار وكانت النتيجة مجحفة لمصر وقد بلغت جملة التعويضات التى دفعتها الحكومة للشركة ٣ ملايين و٣٦٠ الف جنية و تقول الإحصائيات أن عدد العمال الذين شاركوا فى الحفر وصل الى مليون فرد، وقد بلغ طول القناة ١٦٥ كم ويقال أن التكلفة التى تكبدتها مصر فى هذا المشروع وإحتفالاته وصلت الى ما يزيد على ١٦ مليون جنيه . وفي تلك الأثناء كانت أوروبا كلها تحكي وتتحاكي عن مشروع القنال مما دفع الكثير من الشخصيات العالمية إلي زيارة الموقع قبل الإفتتاح الرسمي وكان علي رأسهم أمير وأميرة ويلز الذين زارا أعمال الحفر في بداية عام ١٨٦٩ وفى أوائل نوفمبر ١٨٦٩ أخطر ديليسبس محافظة بورسعيد بأن الخديوى أذن في بدء إعداد الزينات وقام الخديوي إسماعيل بالايعاز إلى مديري الأقاليم لإرسال أعدادا من الأهالى بنسائهم و أطفالهم و حيواناتهم وأدوات المعيشة الخاصة بهم انتشروا على طول قناة السويس وسُمح لهم بالإقامة فى الأكواخ و الخيام و العشش ، حتى ان الإمبراطورة أوجينى قد سُحرت عند رؤية هذا المشهد . وفي يوم ١٦ نوفمبر ١٨٦٩ أقيمت ٣ منصات خضراء مكسوة بالحرير خصصت الكبرى للملوك والأمراء، والثانية إلى اليمين لرجال الدين الإسلامي والثالثة إلى اليسار وخصصت لرجال الدين المسيحي، وجلس بالمنصة الكبرى الخديوى إسماعيل ومسيو ديليسبس والإمبراطورة أوجيني وإمبراطور النمسا وملك المجر وولى عهد بروسيا والأمير هنرى شقيق ملك هولندا ونوبار باشا والأمير عبد القادر الجزائري. وفى يوم ١٧ نوفمبر كان هناك أكثر من ستة ألاف من المدعوين جاءوا الى الإسماعيلية فى ضيافة الخديوي إسماعيل ضاقت بهم رحبات قصره فأقام لهم أكثر من ١٢٠٠ خيمة ملكية وبالطبع وفرت الحكومة المصرية الكثير من القطارات إلي مدن القنال والتي شهدت تدافعاً وإزدحاماً غير طبيعي من كل فئات الشعب والسياح والمغامرين . وكانت المراكب الحربية قد اصطفت على شكل نصف قوس داخل ميناء بورسعيد في منظر بديع، وبعد أن تناول الجميع الغذاء على نفقة الخديوى صدحت الموسيقى بالغناء وعُزف النشيد الوطني وألقى الشيخ إبراهيم كلمة تبريك ثم قام القساوسة من الدين المسيحي وأنشدوا نشيد الشكر اللاتيني. و فى الساعة الثامنة و النصف من صباح ١٧ نوفمبر ١٨٦٩كانت (السفينة إيجل) و علي متنها الإمبراطورة أوجينى وبمعيتها فرديناند ديليسبس تجتاز ميناء بورسعيد لتدخل مدخل القناة حيث أقيمت أقواس النصر و بوابات للزينة على شكل أهرامات شاهقة الارتفاع وقد قامت السفن الحربية المصرية بإطلاق مدافعها تحية للإمبراطورة .فى صباح يوم٢٠ من نوفمبر ١٨٦٩وصل اليخت إلى مدخل السويس لتنزل إمبراطورة فرنسا و الملوك فى القصر الشهير الذى تم إعداده بمناسبة هذه الإحتفالات . وقد تخلفت الإمبراطورة أوجيني فى السويس لزيارة المنزل المتواضع الذى أقام فيه بونابرت. وهكذا عاد الملوك والأباطرة إلى بلادهم بعد أن عاشوا ليال من الف ليلة وليلة فى ضيافة أهم حكام الشرق « الخديو إسماعيل « وراحوا يفكرون ويدبرون الخطط للسيطرة على هذا المجرى الملاحى الهام حتي تكالبوا عليه وأزاحوه عن الأريكة الخديوية عام ١٨٧٩ وووقعت مصر بعدها بسنوات تحت الإحتلال الإنجليزي .. والله علي مصر زمان .