هل جربت يوما أن تتذوق التاريخ, أن تستطعمه, أن تبحث بين أوراقه وحكاياته وصفحاته عن مذاق مميز أو نكهة معروفة, قد يكون المذاق حلوا بطعم العسل أو السكر أو مالحا بطعم الملح أو الفلفل أو حتي لاذعا بطعم البهارات الهندية والتايلاندية والبهارات الغامضة المجهولة القادمة من جنوب شرق أسيا وبلاد تركب الأفيال, وقد يكون الطعم علي الطريقة الصينية يخلط بين الحلو والمالح فيترك لسانك يتأرجح بين مذاقين متضادين فينشط العقل وتتحرك الحواس.
وحكاية هذا الأسبوع من نوع شديد الحميمية, شديد الخصوصية وذو مذاق بطعم الأيس كريم, وأرجو عزيزي القارئ ألا تجد كلامي مضحكا أو غريبا, فحكاية اليوم جزء من تاريخ مصر الجميل, تاريخ تتناقله الأجيال وتحكي عنه بشغف لأنه ارتبط بحاسة من أهم حواس الإنسان هي حاسة التذوق.
حكاية اليوم عن جروبي أول وأشهر من صنع الأيس كريم في مصر, صاحب حقوق الملكية الفكرية في نقل الكريم شانتيه و المارون جلاسيه وغيرها من أطباق الحلويات العالمية من سويسرا وإيطاليا وأوروبا الي قلب المحروسة ومنها الي قصور وسرايات الملك والباشوات وأولاد الذوات..
وثيقة اليوم هي عبارة عن مجموعة من الأوراق والفواتير الخاصة بمحل جروبي وهي بمقاسات مختلفة ولكنها كلها أنيقة التصميم, أوراقها فاتحة اللون ذات إطار أصفر مميز يميل الي اللون البرتقالي ويتوسط الصفحة من أعلي تاج المملكة المصرية وشعارها ومكتوب تحته( مورد لجلالة الملك) وعلي اليمين إسم مؤسس المحل( جي. جروبي) وعنوان المكتب الرئيسي شارع المناخ نمرة11- مصر وتحته تاريخ تأسيس المشروع0981 والعنوان التلغرافي( جروبي- مصر) بإعتبار أن هذا المحل أشهر من نار علي علم وكان يكفي أن يكتب علي الخطاب جروبي مصر ليصل بسهولة الي أحد الفروع في شارعي عدلي أو سليمان باشا أو حتي فرع الإسكندرية, والخطابات علي اختلاف أحجامها مكتوبة باللغتين الفرنسية والإنجليزية وبعد قيام ثورة2591 إستخدمت اللغة العربية بجانب هاتين اللغتين, والفاتورة الأولي بتاريخ31 أغسطس9291 وموجهه الي الإتحاد المصري لسباقات الكلاب الجراي هاوند ومقره بمنطقة الزمالك بالقاهرة وتقول: نأسف بشدة لما علمناه من خطابكم بتاريخ9 أغسطس أن مجلس لندن قد أشار بإنهاء موسم السباق في مصر في51 أغسطس, ونشكركم علي الشيك الذي وصل بقيمة13 جنيها و272 مليما كدفعة لفاتورة22 يونية9291 والتي يصل قيمتها الي401 جنيهات, ولذا أرجو الحصول علي التحويلات بباقي المبلغ طبقا للاتفاق المبرم بيننا حيث أننا دفعنا كامل المبلغ لشراء المواد التي سوف يتم استخدامها في الطلبية ثم جاءت الفاتورة الثانية بتاريخ8 يوليو4491 من جروبي شارع الملكة فريدة رقم64 بمصر والمكتوب تحته( محل سويسري تأسس0981) وهي الفاتورة المكتوبة باللغة الفرنسية والموجهه الي إحدي شركات الأوروبية لتصنيع الزيوت بمدينة ميت غمر وتقول: إنه يسعدنا إبلاغكم أن القنينات الفارغة لحفظ الزيوت وعددها سبع موجودة في محل جروبي بميدان سليمان باشا... وهذه الوثيقة تعني أن المحل يتعجل الشركة لملء القنينات بالزيوت لزوم عمليات الطهي أو باستبدالها بأخري مليئة. أما الفاتورة الثالثة فهي مكتوبة باللغتين الفرنسية والعربية بتاريخ21 سبتمبر9591 وموجهه الي محلات إخوان فرنوس شارع كنيسة الأروام رقم3 بالإسكندرية وتقول: بعد التحية نتشرف بأن نرسل لكم رفق هذا شيكا علي البنك البلجيكي والدولي بمصر بمبلغ واحد جنيه و009 مليم سدادا لفاتورتكم المؤرخة8 الجاري بخصوص توريد3 علب كادران لساعات الحرس.
ومن هذه الوثائق نتبين أن محلات جروبي لم تكن مجرد مطاعم أو محلات تبيع الحلويات ولكنها كانت متغلغلة في المجتمع المخملي والراقي المصري أو اخر القرن الـ91 وطيلة القرن العشرين وكان إسم جروبي حاضرا في الحفلات والولائم الملكية الرسمية وحتي العائلية لملوك وباشوات مصر وكان مجرد وجود إسم جروبي علي الموائد ينبأ بفخامة الحفل وأناقة وأصالة أصحابه.. بإختصار تحول إسم جروبي الي ماركة مسجلة للفخامة والأناقة والأرستقرطية في مصر طيلة عهود سابقة.
واسم جروبي لمن لا يعرفة مرتبط برجل سويسري ولد عام3681 في روفيو في الجزء الإيطالي من سويسرا هو جياكومو جروبي, تعلم صناعة الحلوي في لوجانو ومارسيليا ثم قدم الي القاهرة ليعمل لدي أقاربه السويسريين أصحاب محلات جيانولا للحلويات ثم إنتقل الي فرع جيانولا بالإسكندرية المتخصص في تقديم الحلويات والشاي, وبعد سنوات من العمل الشاق استطاع شراء أسهم جيانولا في مصنع القاهرة وفرعها بالإسكندرية وبعدها افتتح أول محلاته باسم جروبي في شارع شريف بالإسكندرية والذي قدم فيه إختراعه الجديد الذي نقله من أوروبا وهو الكريم شانتيه ثم عاد الي سويسرا ثم ما لبث أن عاد مرة أخري الي مصر وانطلق في مجال صناعة الحلويات والشيكولاته وافتتح فرعه الأول لمحلات جروبي في شارع عدلي وفي عام4291 افتتح أكيلي ابنه محلهما الثاني في وسط المدينة في ميدان سليمان باشا في العماره التي صممها المعماري الايطالي انطون لاشياك وكان أكيلي أول من أدخل الأيس كريم علي نطاق صناعي كبير في مصر مما جعل محلات جروبي تمتاز بحلويات غير موجودة في أي مكان آخر, ولخدمة مطاعمه ومحلاته أدار مزرعتين إحداهما لإنتاج الألبان اللازمة لصناعة الأيس كريم والأخري لزراعة الفاكهة والمنتجات الزراعية التي تحتاجها مطابخ محلاته والتي لم تكن متوفرة في مصر مثل الفراولة, وفي عام9491 توفي أكيلي فأرسل جياكومو الأب ابن أخته أكيلي بيانكي الذي كان يعيش في لوجانو الي مصر لمساعدة حفيده شيزاري لإدارة إمبراطورية جروبي وبالفعل نجح الشابان في إدارة الأعمال ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فسرعان ما هبت رياح العداء للأجانب وقام الغوغاء بتدمير بعض محلات جروبي أثناء حريق القاهرة, ولم يعد الحال كما كان, وذهب الملك بلا رجعة وأظلمت السرايات وألغيت الألقاب وانحسر الضوء عن أبهة زمان فقرر ورثة جياكومو بيع جروبي فذهب السويسريون وبقي اسم جروبي وتاريخه, تاريخ بطعم الشيكولاتة ونكهة الأيس كريم والكريم شانتيه.. بقي أن أقول أن الملك فاروق حينما قرر أن يرسل هدية فاخرة للملك جورج ملك إنجلترا لم يجد أفضل من إرسال001 كجم من شيكولاتة جروبي الفاخرة.. والله علي مصر وحلوياتها وحكاياتها زمان.
رابط دائم: