الحكايات في مصر القديمة مليئة بالإثارة والسحر والغموض وخاصة حكايات الجواري والعبيد في القصور الخديوية وسرايات الباشاوات.. ووثيقة هذا الأسبوع غريبة ومثيرة وجميلة, وهي عبارة عن ورقة قديمة صفراء اللون منقوشة برسوم لشخصيات أسطورية وتحمل عنوان تذكرة مرور داخلية مدون عليها أن ثمنها خمس قطع فضة وهي مقسمة الي أقسام( رقم واسم وسن وحرفة وأوصاف) وهي لنفر واحد لا غير هي فتاة اسمها سعيدة الجارية تعلق الشيخ إبراهيم الغربي( أي تتبعه)
وحرفتها جارية أما أوصافها المكتوبة فهي جارية سوداء متوسطة القامة ومفتوحة الحواجب.. ومذكور في الوثيقة أنه تعتمد هذه التذكرة باسم الجارية المذكورة وحدها لتوجهها الي المولد عام1262( فترة حكم عباس باشا الأول) لأجل مبيعها بالمولد الي الجلابة مع سيدها الشيخ إبراهيم الغربي وهي من تعداد النفوس بكفر صقر بالشرقية وصرح بهذا لأجل عدم المعارضة والسماح له بالتوجه بها لبيعها وعلي الوثيقة ختم محمد كامل ناظر الضبطية.. ومن هذه الوثيقة نتبين أنه كان مسموحا في تلك الفترة ببيع العبيد والجواري وكان يتم منحهم تذاكر للمرور حتي لا يعترضهم أحد تحمل كل البيانات الخاصة بالجارية أو العبد وصاحبه وأن البيع كان يتم بالموالد والأسواق وأن هذا العمل علي بشاعته كان يتم بشكل شرعي ومقنن.
ويقول وائل إبراهيم الدسوقي الباحث في التاريخ الحديث إن الإتجار بالرقيق كان من الأمور الطبيعية في مصر وكان العبيد البيض يجلبون من جورجيا ومن المستعمرات الشركسية أما العبيد السود فيأتون من دارفور وكردفان. ويختلف سعر العبد تبعا للعمل الذي يؤديه كما يقول الدكتور سمير عمر ابراهيم في كتابه الحياة الاجتماعية في مدينة القاهرة فالعبد العادي يتراوح ثمنه بين150 و300 قرش, و الحبشي من600 إلي1000 قرش بينما البنت الحبشية فيصل ثمنها إلي1500 قرش, وقد قدر عدد العبيد في مصر في الفترة من1838 إلي1840 بــ22 ألفا إلي30 الفا. وكان الرقيق يخدمون في بيوت الأعيان و يقومون بأعمال الزراعة وكانت النساء يتخذن كمحظيات.
ويؤكد وائل الدسوقي أن عباس باشا والي مصر كان يكره الرق وتجارته أما سعيد باشا فقد جعل الرقيق البيض يعملون كضباط في الجيش المصري والسود جنودا ثم قرر الخديو إسماعيل إلغاء تجارة الرقيق ووقعت الحكومتان البريطانية والمصرية علي اتفاق بالإسكندرية في4 أغسطس1877 م يقضي بمنع تجارة الرقيق
ويقول الباحث عماد هلال في كتابه أنت حر لوجه الله.. الرق والعتق في مصر القرن التاسع عشرإن السير بارتل فرير عضو البرلمان الإنجليزي كتب عند زيارته للقاهرة عام4381 عن سوق الرقيق والجواري قائلا: إنه واحد من أهم المشاهد التي تستحق الزيارة وأن تجارة الجواري كانت مزدهرة في وكالات بيع الرقيق مثل وكالة الجلابة حتي عام1841 م, عندما تقدم العديد من الأجانب بشكاوي إلي محمد علي معترضين علي حالة الجواري والعبيد في تلك الوكالة السيئة السمعة, فأمر محمد علي بنقل البيع وأصدر أمرا في1842 م, بأن يكون بيع الرقيق بجهة قايد بك( ضريح قايتباي) ولا يكون بالوكائل حتي لا يري الأجانب أن الجلابة تسوق العبيد في أزمة مصر وشوارعها والأسواق.
ولكن هذا الأمر لم يدم طويلا, فسرعان ما عادت تجارة الرقيق إلي وسط القاهرة, والدليل علي ذلك قائمة الوكالات التي كان يباع فيها الرقيق التي قدمها القنصل البريطاني ريد في عام1867 والتي تضمنت وكالة المحروقي و السلحدار. وفي وكالة الجلابة كان الأرقاء السود يجلسون علي الأرض في فناء واسع تبدو عليهم علامات عدم الاهتمام, وكانوا يتحدثون ويضحكون ولا يبدو علي وجوههم الحزن لأنهم قد بلغوا- أخيرا- مكانا ينالون فيه قسطا من الراحة بعد رحلة سفر طويلة. ويؤكد عماد هلال أن الشاري كان يفحص البضاعة بروية فيطالب العبد بالسير والجري, ورفع الذراع وخفضها للتحقق من مرونتها. وكان من المعتاد أن يتم الكشف علي الرقيق وهم عرايا خصوصا الجواري فيتعرضن لتفرس المشترين ونظراتهم, وهن في حالة من العري والبؤس, فلا يسترهن سوي قطعة صغيرة من القماش, ويستسلمن بهدوء لعبث أيدي المشترين والبائعين ثم كانت الجواري توضع في حريم المشتري لتظل تحت مراقبة نساء الحريم وفي النهاية يقدمن تقريرا عنهن, فإما يقبلها المشتري وإما يردها إلي التاجر. ويذكر إدوارد وليم لين أن من الأسباب التي تجعل المشتري يرد الجارية, أن تغط في نومها, أو تصر بأسنانها, أو تتكلم أثناء النوم أما الجلابة فيجلسون بالقرب من رقيقهم, وهم يدخنون الشبك( النرجيلة) إلي أن يأتي أحد المشترين, فيطيل النظر في الرقيق ثم يبدأ في مساومة التاجر في الثمن وقد يستعين التاجر أو المشتري بسماسرة الرقيق. وقد شهد عهد سعيد نشاطا كبيرا لتجارة الجواري والعبيد, واتساع نطاق تجارة الرقيق في السودان و كان التجار يجدون الوسائل لإخفاء الرقيق خاصة الجواري, حيث كانوا يدعون بأنهن زوجاتهم أو أنهن من حريم إحدي الشخصيات الهامة في مصر. في عهد إسماعيل كانت الجواري تجلب لحسابه إلي الإسكندرية حيث يتم إنزالهن من القوارب إلي عربات السكك الحديدية المخصصة لحريم الخديو ويقول التجار إنهن ذاهبات إلي حريم الخديو أو أحد الأمراء أو الباشاوات لكي يمروا من ضباط الشرطة. وفي عام1855 م أصدر سعيد باشا أمرا عاليا يعطي الحرية لكل الجواري والعبيد الموجودين بمصر والراغبين- باختيارهم- ترك خدمة سادتهم, ولكن يبدو أن العمل بهذا الأمر لم يدخل حيز التنفيذ فتحول بيع الجواري من السوق العامة إلي داخل البيوت, أما الخديو إسماعيل فقد اعتزم محاربة تجارة الرقيق, وتحرير الرقيق من البيوت والعائلات ولكنه واجه معارضة شديدة وتعنتا من رجال الدين والمال والأثرياء وملاك الرقيق أنفسهم فقام بتعويض أصحاب بعض العبيد وأصدرا أمرا إلي المالية في29 ديسمبر1874 م بصرف مبلغ26942 قرشا من خزينة مديرية الغربية وتكليف مفتش أقاليم الوجه البحري بالإشراف علي دفع هذه التعويضات إلي أصحابها واستمر هذا الوضع حتي تم عقد معاهدة الرقيق وتم بمقتضاها إنشاء أقلام حكومية أصبحت هي المنوطة دون غيرها بعتق الرقيق. وفي يونيو1880 م أنشأ الخديو توفيق مصلحة إلغاء الرق وعين لرئاستها الكونت ديلا سالا.. ويقول عماد هلال إن معدل منح تذاكر الحرية من أقلام عتق الرقيق لم يتجاوز ألفا وأربعمائة رقيق كل عام, بينما عدد الرقيق الموجودين في مصر يومئذ يتراوح بين ثلاثين وأربعين ألفا, والمفروض أنه عند إنشاء تلك الأقلام أن يهرع الرقيق إليها للحصول علي حريتهم, بحيث يتم تحرير الثلاثين ألفا في عام أو عامين, ولكن ما حدث لم يكن كذلك فالذين تقدموا بطلبات للحصول علي أوراق الحرية من العبيد المقيمين بمصر لم يتجاوز عددهم أبدا نسبة05% ممن منحوا تذاكر الحرية, أما نسبة الـ05% الباقية فهي تذاكر منحت للعبيد الذين تم تخليصهم من أيدي تجار الرقيق عند تهريبهم عبر الحدود.والله.. الله علي مصر وحكاياتها المثيرة زمان.
رابط دائم: