محطة الرمل.. قلب الإسكندرية القديمة.. رائحة البحر والذكريات.. باعة الكتب والمجلات والفيشار اللذيذ المقرمش الذي يقفز ويتقافز من القرطاس الورقي الي فم الأطفال فيمتلئ المكان بضحكاتهم عندما تسقط واحدة بعيدة عن الهدف أو علي الأرض وعجلة الأيس كريم الكلوكلو الشهي المغطي بطبقة من الشيكولاتة بجرسها المميز
الذي يدقه البائع لينبه الأطفال الي قدومه من الكورنيش وصوت الترام الأزرق أبو دورين وهو يدخل الي رصيف المحطة فيتسارع الشباب والأطفال للحصول علي مقعد في الدور العلوي ليشاهدوا مباني المدينة الكوزموبوليتانية الجميلة من أعلي وصوت عجلات الترام الرتيبة وهي تدق علي القضبان من محطة الي أخري وتنتهي بصوت فرملة يعرفها ويحفظها كل سكان المدينة فلا تثير قلقهم.. كلها ذكريات وحكايات عن الإسكندرية القديمة الجميلة وقلبها النابض بالحياة محطة الرمل الذي أصبح حديث كل وسائل الإعلام هذه الأيام لقيام الأجهزة التنفيذية بإزالة الأكشاك وباعة الجرائد منه وغلق محل الفيشار الذي يعرفه كل سكان المدينة وركاب الترام الذين يزيد عددهم عن120 الف مواطن يوميا تمهيدا لتطوير الميدان وإعادة الرونق الحضاري اليه وإعادته الي حالته الأصلية التي كان عليها في تطويره الآخير علي يد المهندس أحمد النجار عام1958. والوثيقة التي أعرضها هذا الأسبوع هي وثيقة علي ندرتها وخطورتها الإ أنها شديدة الطرافة والإثارة في نفس الوقت وهي عبارة عن شكوي تخص منطقة محطة الرمل وهي موجهة من رئيس جمعية حماية مصالح سكان منطقتي الإبراهيمية والرمل والذي وقع بالأحرف الأوليS.H.Carnin الي سيادة وزير الأشغال العمومية بتاريخ27 يناير1905 باللغة الفرنسية يقول فيها: سيدي.. لي الشرف أن الفت إنتباه سيادتكم الي أن غياب وعدم وجود تنظيم أو رقابة علي شركة سكة حديد الرمل قد سبب مشكلة خطيرة ومقلقة لراحة الركاب.فمنذ يوم الإثنين32 يناير لا توجد محطة الرمل( بلاغ عن إختفاء محطة الرمل) فالمحطة الجديدة أو نهاية الخط تتوقف عند الرصيف الجديد بالقرب من البرج الروماني, وبهذا يجد الركاب أنفسهم معرضين لسوء الأحوال الجوية بالقرب من البحر بدون وجود أي مآوي يقيهم المطر والرياح في موقع هو الأكثر تعرضا للرياح والأنواء في مدينة الإسكندرية.. وبدون أن تحمل شركة سكة حديد الرمل أي هموم أو تفكر في هذه المشكلة قامت ببيع جميع الأراضي بالمكان بسعر مرتفع وحققت بذلك ثروة ضخمة بدون أن تترك مساحة من الأرض تحسبا لحدوث أي مفاجآت في المستقبل أو لإحتمال الحاجة للتطوير أو التوسع وكانت النتيجة أن الخط أصبح في الطريق العام وجاءت الشركة تطلب الآن من البلدية أن تخصص جزءا من هذا الطريق العام لإقامة المآوي, وبالطبع رفضت البلدية التي كانت الشركة قد منعتها من التدخل في أي شئ يخص الترام علي الرغم من أن الخط يمر في أراضيها, وأصبح الحال مزريا وأصاب المواطنين بالحزن والإكتئاب.. فالشركة التي لم تعد تملك أراضي قد تركت الأمر معلقا بغرض لي يد البلدية وإجبارها علي التدخل لحل المشكلة والبلدية ترفض.. ويضيف الخطاب المكتوب بلغة أنيقة أن الحكومة في النهاية لديها القدرة علي التدخل وحل هذه المشكلة وإننا نطلب منها إستخدام سلطاتها لإنهاء هذا النزاع غير المحتمل.. وفي النهاية أنهي رئيس الجمعية خطابه بطريقة مهذبة موجها خالص احترامه لوزير الأشغال العمومية.
من هذه الوثيقة نتبين أن الإسكندرية كانت تضم أطيافا عدة وجنسيات كثيرة مثل الفرنسيين والإيطاليين والشوام والأرمن واليونانيين وأن كل جالية منهم كانت تقيم في منطقة بعينها فيقال إن اليونانيين كانوا يتركزون في منطقة الإبراهيمية وأن لكل منطقة أو حي كانت هناك جمعية ترعي مصالحهم وشئونهم وتتابع ذلك بمنتهي الإخلاص والهمة وكانت هذه الجمعيات التي تقدم المعني الحقيقي لمصطلح المجتمع المدني تلقي كل إحترام وتساعد كثيرا في حل مشكلات المواطنين اليومية مثل تلك التي تعرضها الوثيقة التي تؤكد أن شركة الترام باعت كل الأراضي حول خط الترام ولم تقدم أي مآوي للركاب يحميهم من برد الشتاء وبالتالي لجأت الشركة للبلدية التي رفضت المساعدة عندا في الشركة فقام رئيس الجمعية بمخاطبة الحكومة والوزير المختص بحثا عن حل لمشلكة لا ناقة للركاب فيها ولاجمل.. وهكذا بمنتهي البساطة تعلن هذه الوثيقة عن اختفاء محطة الرمل بما أنه لا يوجد مكان يحمي الركاب ويحافظ علي أدميتهم ويقول يوسف فهمي الجزايرلي في كتابه الإسكندرية في فجر القرن العشرين إن محطة الرمل القديمة كانت في مكان سينما ستراند وكان ماء الخليج يصل الي مقربة منها وكانت تسير علي خط ضاحية الرمل الحديدي قطارات بخارية تستغلها شركة بلجيكية- انجليزية فيخرج القطار من موقع سينما ستراند ويسير فوق المرتفع الذي أعدت في سفحه جملة من الدكاكين وبعض العمارات الضخمة, وفي مكان جراند تريانون كان يوجد كازينو زاراني الخشبي وفي مكان القنصلية الإيطالية كانت حمامات زوروس من أقدم الحمامات العامة بالمدينة وكانت مشيدة من الخشب وتضم حجرات صغيرة لخلع الملابس في مقابل أجر زهيد وفي مكان أتينيوس كان يوجد كازينو سانتي المشيد من الخشب ويطل علي البحر وبالقرب من لسان السلسلة كانت كلية فيكتوريا مشيدة فوق مرتفع من الأرض في المكان الواقع بين مسجد إبراهيم ومحطة الأزاريطة.
بقي أن أقول أنه كان قد أقيم مبني خشبي بسيط للمحطة عام1904 عندما تمت كهربة السكة الحديد وكان يستخدم لقطع التذاكر ويضم بعض الدكاكين بداخله وأن ضاحية الرمل نفسها لم تكن سوي صحراء رملية يأوي إليها بعض الأعراب وكان وراء تلك الكثبان قرية صغيرة تسمي الرملة يسكنها قليل من الناس إذ كانت الحكومة تعتبر تلك المنطقة من المناطق العسكرية التي لا يجوز الانتشار فيها إلا بإذن خاص من السلطات وتدريجيا زحف العمران اليها خاصة بعد الامتياز الذي تم منحه للسير إدوارد سان جون فيرمان في1860 م, ليتم تأسيس شركة الترام ويتم مد أول قضبان حديدية بجهة( مسلة كليوباترا) ميدان محطة الرمل حاليا, ليتم افتتاحه في1863 م لينقل المواطنين بقطار واحد من الإسكندرية( محطة الرمل حاليا) إلي محطة بولكلي الحالية.
والله علي الإسكندرية وميادينها وناسها وترامها زمان.
رابط دائم: