ومن هذه الأوراق النادرة ، الورقة التى أعرضها هذا الأسبوع وهى ورقة ليست عتيقة بل “ مُعتقة “ تعتيقة الخمور المحفوظة فى صناديق خشبية و تفوح منها رائحة المزاج العالى بتاع زمان .. ورقة تحكى عن زمان مضى كانت تدور احداثه فى البارات وخمارات بدايات القرن العشرين ..
والحكاية من البداية أن الأحلام داعبت رأس البارمان الإيطالى “ كاروزو فينينزو “ الذى كان يعيش فى الإسكندرية منذ سنوات أن يصبح يوماً ما صاحب بار وليس مجرد عامل أجير فى زمان كان أغلب البارمانات وأصحاب الخمارات من اليونانيين والإيطاليين ، وبالفعل اجتهد الرجل فى عمله لإسعاد الزبائن وبالتالى زاد البقشيش و صار من الأسماء اللامعة فى هذا المجال فى الإسكندرية التى كانت تحتضن جالية أجنبية كبيرة وعددا لا بأس به من البارات تتنافس مع بعضها البعض فى منطقة وسط المدينة والمنشية أو حى القناصل واللبان ومينا البصل وشارع السبع بنات فى تقديم أفضل أنواع الخمور المُعتقة الواردة من أوروبا على متن - البوابير - أو السفن الضخمة التى كانت تصل الى الميناء كل أسبوع بالإضافة الى العرقى أو عصير البلح «خمرة الغلابة» ، وتمكن فى سنوات قليلة من تجهيز المبلغ اللازم لفتح الخمارة وتحقيق حلمه ، وبالفعل وقع اختياره على دكان فى منطقة «بوسطة مينا البصل» فى غرب المدينة وهى المنطقة التى كان يكثُر بها العمال فى مجال بيع وتصدير القطن لقربها من الميناء ومن بورصة القطن ، وتمكن من التفاوض لتأجير الدكان الذى يقع ضمن أملاك حرم رؤوف باشا وقدم طلباً الى نظارة الداخلية وهى الوثيقة التى أعرضها اليوم أنه يرغب فى إدارة خمارة بملك حرم رؤوف باشا شياخة أبو زيد محمد الكائن فى شارع بوسطة مينا البصل قسم اللبان ، فما كان من نظارة الداخلية قسم الضبط إلا أن استخرجت ورقة عبارة هى بمثابة موافقة على القيام بالنشاط وفتح المحل، وهى إعلان بوصول إخطار عن محل عمومى مُعطى الى “ كاروزو فينينزو “ ومكتوب باللغتين العربية والفرنسية تقول فيه أنه فى يوم السبت الموافق 26 يونيو 1903 تقدم المدعو «كاروزو فينينزو» التابع لدولة إيطاليا والمقيم فى الإسكندرية وصناعته «خامورجي» أى بائع خمور - وليس مُحتسيها - حضر الى المحافظة وقدم إخطار أنه يرغب فى إدارة خمارة بملك حرم رؤوف باشا شياخة أبو زيد محمد الكائن فى شارع بوسطة مينا البصل قسم اللبان وأرفق مع ذلك الإخطار شهادة محررة من المحافظة بتاريخ 16 مارس 1902 نمرة 154 دالة على خلوه من المحذورات المنصوص عنها فى المادة الرابعة من لائحة المحلات العمومية الرقيمة فى 21 نوفمبر 1891 ، وقد تعهد المذكور بأنه لا يسمح بإجراء العاب القمار فى محله أى نوع كانت .. الإمضاء محافظ الإسكندرية .
الملاحظ فى هذه الوثيقة أن التقدم بطلبات لفتح المحلات أو لممارسة أى نشاط تجارى كان يتم من خلال نظارة الداخلية ، وأنه كانت هناك لائحة عمومية لهذه المحلات توضح المسموح والممنوع يتم تطبيقها بمنتهى الحزم ومتابعة التنفيذ بدقة وأن الطلبات كانت تقدم بلغتين لوجود عدد كبير من الأجانب فى المدينة فى ذلك الوقت بالإضافة الى أن العمل فى دواوين الحكومة كان يتم بعدد من اللغات بجانب العربية هى الفرنسية والإنجليزية، وأن الطلبات كانت تقدم مستوفية كل البيانات ومنها إسم صاحب العقار الذى كان يوجد به المحل والشياخة التابع لها وغير ذلك ، بالإضافة الى كل البيانات عن صاحب الطلب ومنها إسمه والبلد التابع لها باعتبار المدينة كانت تضم العديد من الجنسيات منها الايطاليون واليونانيون والقبارصة والشوام والارمن واليهود وغيرهم ، أما أطرف ما فى الوثيقة فهو أن الطلب يقول أن مُقدمه يرغب فى إدارة «كباريه» وليس بار باللغة الفرنسية وإن صناعته ليست «خامورجي» بل رجل «كباريهات» وأنه من غير المسموح لعب القمار داخل البارات وكأن هذا هو العيب الوحيد فى ذلك الوقت فالشرب مسموح به ولعب القمار انفلات أو ربما كان يستلزم استخراج رخصة من نوع أخر.
بقى أن أقول أن الدكتور سمير عمر إبراهيم يؤكد فى كتابه الحالة الإجتماعية فى مدينة القاهرة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر أن الأقباط واليهود فقط كان يسمح لهم بشراب النبيذ المصنوع من تقطير البلح (العرقي) وقد ذكر وليم لين أن بعض المسلمين يشربون النبيذ مع أصدقائهم سراً، وقد ذكر كلوت بك أن منع شرب الخمور فى مصر ذات الجو الحار يعد من أهم أسباب حمايتهم من الأمراض .. وقد فرضت قيود على دخول المشروبات الروحية الى القاهرة ولم تسر عليه التسهيلات التى منحت لباقى أفرع التجارة وكان مسموحاً فقط بكمية محددة سنوياً لحاجة الأجانب، وتعفى من الرسوم والضرائب كميات النبيذ المخصصة لاستعمال العائلات الأوروبية وتصرف بموجب تذاكر بمعرفة القناصل ويجب أن يوضح بالتذكرة الإسم والمهنة ومحل السكن لمن يريد تناول النبيذ ومن أراد أن يصرف كميات أكبر للمتاجرة فينبغى عليه دفع رسوم ضرائب الاستيراد والمتاجرة .. وياسلام على مصر وقوانينها زمان .