رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الدروس الحسنية.. النموذج والعبرة

حل رمضان.. ورحل رمضان، وبين الحلول والرحيل عاشت المنطقة ونعيش معها أحداثا إرهابية دامية لم يتم فيها التمييز أن الشهر الذي نعيشه هو شهر خصه الله بفضله دون باقي اشهر السنة،

 وخصه بخصائص لم يهبها لغيره وجعله شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وشهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلّق أبواب النار وتُربط فيه مردة الشياطين، لكن الفكر الظلامي طغت عليه صفة العنف والدم ولغة الانتقام من الوطن وضاعت عنه سماحة الدين وفضل الشهر العظيم.


ولأننا نعيش في زمن اختلطت فيه المفاهيم وضاعت القيم وانحرفت المجتمعات عن صحيح دينها ولجأت الي الغلو والتطرف الذي تكون نهايته دائما الارهاب، فيستحضرني هنا سنّة حميدة أنشأها الملك الراحل الحسن الثاني منذ سنة 1963، وحافظ عليها وريث عرشه الملك محمد السادس، وهي سلسة الدروس الحسنية التي تلقي كل شهر رمضان في حضرة أمير المؤمنين صاحب الجلالة وتحت رئاسته الفعلية بحضور كوكبة من العلماء والمشايخ ومشايخ الصوفية والدعاة والقراء والمفكرين والمثقفين من المغرب وخارجه بغض النظر عن مذاهبهم وتوجهاتهم الفكرية سواء كانت سنية او شيعية او اباضية، وهم جميعا يحلون في ضيافة ملك البلاد طيلة أيام الشهر، حيث يكون حجهم السنوي الي المغرب فرصة لإلقاء الدروس والمحاضرات وتبادل الأفكار والآراء ومناقشة شؤون الامة والمشاورة في ايجاد حلول لها وفق منهجية علمية، ووسطية واعتدال في الطرح والمعالجة، بعيدا عن الغلو او التشدد. كما تفتح لهؤلاء الفقهاء والعلماء ابواب المساجد والجامعات والمؤسسات التابعة لوزارة الأوقاف في مختلف المدن المغربية لإلقاء خطبهم أو محاضراتهم دون توجيه أو رقابة مسبقة علي اختيار الموضوع او طرحه شرط الابتعاد عن فكر الكراهية والتطرف والإرهاب.


هذه السنّة الطيبة التي أسسها ملك المغرب منذ فجر الاستقلال؛ وإن كانت تؤرخ لما قبل 1963 حيث حرص سلاطين المغرب علي هذه الدروس الدينية وحظيت بعناية خاصة في عهد الدولة العلوية حيث تم تكريم العلماء وتعظيمهم من خلال مجالس علمية في رمضان تناقش فيها أمور الدين والشريعة وعلم الحديث والفقه وعلوم التفسير وغيرها من العلوم الدينية؛ هي فرصة اولا لإعادة الاعتبار للعلماء والفقهاء والتأكيد علي مكانتهم ودورهم الفعال في حصانة الأمة. وقد كان الدافع من وراء تأسيسها بالشكل المتعارف عليه اليوم هو تخوف الحسن الثاني، رحمه الله، من ان ينساق المغرب وراء أي فتنة، وخصوصا ان البلاد كانت حديثة العهد بالاستقلال وكانت تحتاج الي تحصين مناعتها الحضارية قبالة تدفق موجات الغزو الأيديولوجي والتغريب الثقافي، والدفاع عن هويتها الإسلامية التي باتت مهددة بتنامي المد الشيوعي الإلحادي وصعود اليسار في الجامعات المغربية، وهنا تدخل الحسن الثاني  بدهائه واستباقه لعصره بصياغة أول دستور للمملكة يؤكد علي أن الاسلام هو دين الدولة، ويمنح لقب أمير المؤمنين لملك البلاد وهو اللقب الذي يخوله كافة الصلاحيات لتسيير الشأن الديني ومن ضمنه إقامة والاشراف علي الدروس الحسنية.


بذلك اصبحت هذه الدروس الرمضانية مؤسسة إسلامية دستورية، تمخضت من رحمها الكثير من القرارات والتوصيات منها قرار المغفور له الحسن الثاني بإنشاء دار الحديث الحسنية؛ وهي جامعة إسلامية تهتم بعلوم الحديث والفقه والعلوم الشرعية الأخري؛ وقراره المتعلق بالمحافظة علي اللغة العربية وقرار آخر متعلق بإجبارية أداء فريضة الصلاة في المدارس الابتدائية والثانوية والجامعات، كما أعطيت عن طريقها تعليمات بختم القرآن الكريم خلال شهر رمضان عبر موجات الإذاعة ومن خلال شاشة التلفزة، وأنشأ علي إثرها جلالة الملك محمد السادس إذاعة خاصة بالقرآن الكريم تسمي « إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم» وغيرها من القرارات التي تصب في وسطية الدين واعتداله.


وكأبهي صورة لنقل صورة الاعتدال والتسامح والحق في الاختلاف فقد اعتلي منبر الدروس الحسنية نخبة من العلماء من بينهم الشيخ «جاد الحق علي جاد الحق» والشيخ «محمد سيد طنطاوي»، والشيخ «متولي الشعراوي»، والشيخ «عبد الفتاح أبو غدة» والزعيم الشيعي الإمام «موسي الصدر» وغيرهم كثير، بالاضافة الي ثله من العلماء المغاربة علي رأسهم الزعيم والعلامة علال الفاسي، والشيخ عبد الله كنون، وآخرون كثر. لكن التفرد المغربي حدث، مرة اخري، عندما اعتلت هذا المنبر عالمات دين مغربيات، وكان ذلك أهم تحول شهدته هذه الدروس منذ انطلاقها، حيث عمل الملك محمد السادس في 2003 علي استضافة العالمة الدكتورة رجاء الناجي المكاوي كأول امرأة تعتلي المنبر وتلقي درسا أمام قائد دولة في كل العالم العربي. ومنذ ذلك الوقت، توالت الخطيبات والعالمات المغربيات علي منابر الدروس الحسنية، حيث تعتلي المرأة المنبر وتقوم بإلقاء الدرس الديني أمام الملك وكبار الفقهاء والعلماء.


بهذه الدروس الحسنية الرمضانية عبر المغرب عن نجاعة دبلوماسيته الدينية وتفرده في تدبير الحقل الديني، وعبر عن تشبيه بقيم الاعتدال وإيمانه بالاختلاف. ومن خلال هذه الدروس استطاع المغرب ان يتحصن ضد التطرف والغلو والارهاب بعدما باتت المملكة قبلة لمئات العلماء من مختلف الاطياف جمعتهم جلسة واحدة وهدف واحد وهو ترسيخ لغة الحوار مهما بلغت درجة الاختلاف. ولهذه الدروس قيمة ودور في توعية وبناء شخصية المسلم المعتدل الذي باتت مهددة بعدما سيطر الفكر الظلامي المتشدد الذي بات يستهدف ويستقطب شباب الامة تحت حجج واهية بعدما غابت صور الاسلام السمح عن سلوكنا وثقافة مجتمعاتنا.


نحن اليوم في أشد الحاجة لمواجهة كل التيارات المعادية لسماحة الدين الاسلامي، ونحن بحاجة الي تعميم هذه المجالس العلمية التي تجمع العلماء المعتدلين وتكرمهم وتعطيهم فرصة للتعبير عن صحيح الدين وتمثيله بوسطيتهم واعتدالهم حتي يكونوا نبراسا يتم السير علي خطاهم ويتم الاقتداء بعلمهم والحرص علي دورهم في تحصين الانحرافات الدينية، ونحن بحاجة الي أن نلتف جميعا حول دين معتدل نؤمن به ونروج له ويكون لنا حاميا وواقيا من كل التيارات المتطرفة والارهابية.


> كاتبة مغربية


لمزيد من مقالات وفاء صندى

رابط دائم: