وما يمر به من حالة تقهقر حضاري متمثلا في نزعات التطرف والغلو التي أصبحت تنتشر كالنار في الهشيم في الجسد العربي والاسلامي. والواعي بمخاطر كل ذلك وتداعياته على الامن القومي والامن الروحي لدول المنطقة، يدرك ان الارهاب، الذي اصبح العدو الاول للانسانية، ليس الا الابن الشرعي لمختلف هذه التحولات والظواهر التي نعيشها ونكتوي بنارها، الأمر الذي يلقي بأعباء ثقيلة على كاهل مختلف الفاعلين سواء كانوا دولا او حكومات ومؤسسات او أفرادا من أجل محاربة التطرف والارهاب وغلق الباب امام جميع مسبباته.
التطرف والارهاب الذي وجد له في المنطقة العربية المأزومة بيئة وحاضنة لتفريخ وتنقل عناصر وتنظيمات ارهابية استطاعت اختراق الحدود السهلة (تنظيم "داعش")، او اخرى حافظت على صمودها بل ضاعفت أعمال عصاباتها على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدتها خلال العملية العسكرية الفرنسية في مالي والحديث هنا عن تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" الذي وسع شبكة تحالفاته لتضم "أنصار الشريعة في ليبيا" وجماعة "بوكو حرام" في نيجيريا و"حركة الشباب الإسلامية" في الصومال.. ومختلف هذه التنظيمات باتت تشكل عبئا على المنطقة وخطرا يهدد امنها واستقرارها، مما يستدعي اعتماد استراتيجية شاملة للقضاء او على الاقل الحد من الاسباب التي تؤدي الى تفاقم هذه الظواهر.
والمغرب المعروف بإسلامه السمح الذي يشجع على الوسطية ويدعو إلى نبذ العنف وإعلاء قيم التعايش وعدم التمييز على أسس دينية أو مذهبية قد تمكن، على مر التاريخ، من مواجهة التطرف الاقليمي والتطرف المجتمعي بسبب موروثه الفقهي المعتدل والوحدة الدينية والمذهبية والتواصل الروحي والوجداني مع محيطه الاقليمي. وقد سهرت الدول التي تعاقبت على حكم المغرب منذ الحكم المرابطي على حماية هذه الخواص التي يتميز بها المغرب وضبطها بناء على مؤسسة إمارة المؤمنين والبيعة الشرعية والوجدانية المتجذرة بين ملوك المغرب وقبائل وشعوب الغرب الإفريقي، خاصة، وطرقها الصوفية. وإمارة المؤمنين تلعب الى اليوم دورا محوريا، باعتبارها سلطة روحية يتمتع بها ملك المغرب، في مواجهة التطرف، وإشاعة الإسلام المعتدل.
كما شكلت الطوائف الصوفية بتعبيراتها المختلفة حاضنة للتربية الروحية، حيث كانت الممارسة الصوفية هي الشكل السائد للتدين في المجتمع المغربي. وهذه الممارسة كانت ترتكز على ثقافة الانشغال بالدين بمفهومه الطقوسي والشعائري السمح بعيدا عن الخوض في أمور الشأن العام. ومنذ اعتداءات الدار البيضاء الارهابية في 16 مايو 2003، عمد المغرب على الاهتمام بالتصوف كوسيلة للنهوض بالاسلام المعتدل المتسامح.
ووعيا منه بمخاطر التطرف وحرب الارهاب التي اجتاحت العالم منذ احداث 11 سبتمبر، اولى المغرب اهمية كبرى للحقل الديني، وجعل تأهيله من الورش الإصلاحية التي ترمي الى توفير الأمن الروحي للأمة وتحصينها وايضا مواكبة الحاضر الاجتماعي ومواجهة التحديات والمخاطر الآنية والمستقبلية. وقد تبنى استراتيجية متعددة الابعاد لمكافحة ومواجهة قوى التطرف عبر توسيع البرامج التعليمية التي تشجع على الاعتدال والنسبية الثقافية والتفكير الناقد، واعادة تنظيم كيانات الدولة الدينية من أجل حماية المواطنين من أشكال الإسلام العدائية والمتطرفة. وقد تضمن هذا البرنامج التركيز على دور العلماء في تنوير العقول ومسح الغبار عن أي مغالطات دينية، ويقوم 1500 عالما، أو من هم في حكمهم، بتأطير وتأهيل أئمة المساجد، الذي يعادل عددهم الـ 50 ألفا، باعتبارهم المدفعية الناعمة في وجه الغلو والتطرف بكل أشكاله، وقد تلقى المغرب، في هذا الجانب، واعترافا بالدور الذي يقوم به، طلبات في المدة الأخيرة من عديد البلدان الأفريقية، بغاية تكوين أئمة في المغرب على قاعدة الوسطية ونبذ الغلو والتطرف. اما بخصوص الفتاوى، فكل فتوى لا تصدر عن المجلس العلمي الاعلى لا تعدو كونها مجرد "رأي"، لتفادي فوضى الفتاوي وهرج الادعاءات.
من ناحية اخرى، تم تأسيس "مديرية التعليم العتيق" في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية والتي تهدف عبر مؤسساتها الى تحفيظ القرأن الكريم ونشر ثقافة الفكر المعتدل والانفتاح على الثقافات. الى جانب مراجعة القوانين التي ترعى أماكن العبادة الإسلامية، وتشكيل مجلس ديني في أوروبا للجالية المغربية والاستعانة بالمحطات الإذاعية والتليفزيونية للترويج للتعاليم المعتدلة ومراجعة الكتب والمناهج الدراسية بهدف حذف ما له علاقة بالترغيب المتطرف في العنف. وفي نفس السياق دشن المغرب إخيرا معهد محمد السادس لتأهيل الأئمة المرشدين والمرشدات، وهو المعهد المخصص لاستقبال الأئمة سواء المغاربة أو من البلدان العربية والإفريقية والأوروبية، تماشيا مع نفس الاستراتيجية التي تهدف إلى بث قيم الإسلام المعتدل لدى الأجيال الشابة من الأئمة المرشدين والمرشدات، وتحصين المغرب من نزعات التطرف التي باتت تنتشر بصورة كبيرة وتهدد عدم استقرار المنطقة والعالم .. وسيقوم المعهد، الى جانب باقي المؤسسات المعنية بنفس الهدف بدور مهم في الحفاظ على الهوية الإسلامية للمغرب التي تحمل طابع الاعتدال والانفتاح والتسامح.
نعول على البلدين ببذل/ضم جهودهما من اجل تجديد الخطاب الديني وملء الفراغ القائم حاليا والذي يتسلل من خلاله المتطرفون والمتشددون والارهابيون مستغلين احاديث ضعيفة او فتاوى جاهزة من اجل تمرير فكرهم الدموي العقيم مما يسيء لصورة الاسلام والمسلمين. ونعول عليهما من اجل تفكيك الخطاب المتشدد وصياغة رسالة مضادة مبنية على التسامح والاعتدال تجذب الشباب وتجعل الدين مصدر راحة وهدوء بدلا من جعله مصدر يبعث على النفور من فرط الغلو.