في مشهد يخلو من كل صور الانسانية, اصدرت داعش حكمها بالقتل حرقا علي الطيار الاردني معاذ الكساسبة قبل ان تنشر شريط تنفيذها الاجرامي للحكم عبر مواقعها الالكترونية السوداء تحت عنوان' شفاء الصدور'.
ولا اعلم اذا كانت صور الدم والحرق ورائحة الموت هي من تشفي صدور هذه التنظيمات الارهابية التي وجدت ضالتها في هذه اللحظة الصعبة والمتناقضة التي تمر بها منطقتنا, بحيث لا صوت اصبح يعلو الا صوت ماكنتهم التخريبية. ولا اخبار الا اخبار جرائمهم وتوغلهم داخل مجتمعات تدفع ثمن ظلم وقمع وتهميش انظمتها المتلاحقة. ولا امن ولا امان الا باعلان اسقاط اخر قلاعهم واقتلاعهم من الجذور لتتحقق فعلا مقولة' شفاء الصدور' والمقصود هذه المرة شفاء صدور العالم اجمع.
داعش.. ذلك التنظيم القادم من رحم الطائفية والسياسات الاستعمارية في العراق قبل ان يجد في مناخ التغيرات السياسية التي هبت علي المنطقة العربية والعثرات التي تلتها فرصة ليبرز ويعاود نشاطه الهامد منذ2008 مستغلا في ذلك الصراعات السياسية والتجاذبات الاقليمية والدولية التي استثمرت تواجده في المنطقة وسهلت عبوره الي سوريا, كمجموعة معارضة وآلية حرب, من اجل تحقيق مصالحها, والذي استغل هو ايضا عطاءها وتمويلها الباذخ قبل ان يستقوي عليها ويعلن مشروعه الخاص في تأسيس دولة الخلافة, وان كان ثمن هذا المشروع احتلال الارض وحرق وصلب وقتل وترويع الساكنة والعالم, ليعلن هذا العالم اجمع, بمن فيه من خلق واحتضن ومول هذا التنظيم الارهابي, تحالفه في حربه عليه. انقلب السحر علي الساحر, وتحالف الارهاب ضد الارهاب من اجل القضاء علي تنظيم يحكي ان عدد مقاتليه في سوريا ما بين ستة وسبعة الاف, وفي العراق ما بين خمسة وستة الاف, أي ان مجموع المقاتلين لا يتعدي العشرين ألفا, ومع ذلك لايزال العالم مرتبكا في حربه ضده, ولا يزال هو يسيح في الارض فسادا وذبحا وحرقا واغتصابا ودمارا وتدميرا لعقول الالاف من الشباب ممن يجدون في داعش واخواتها حلم جنة الاخرة وسوط عذاب وانتقام الدنيا ضد الدولة وضد المجتمع وضد الانسان. بينما لاتزال امريكا وحليفاتها تصر علي تكرار نفس مهزلة افغانستان وباكستان, وتعلن حربها ضد عصابات ارهابية غير نظامية عن طريق الجو!!, فكم من ارض ستحرق وكم من دم الابرياء ستسفك قبل ان تحقق هذه الحرب مبتغاها؟.
العراق تغرق, وسوريا تنتهك, واليمن تغتصب, ومصر تحترق واليمن وليبيا سيعلنون وفاتها بعد اشهر او ربما ايام, بينما الارهاب يبسط جناحيه ويتغذي من التطرف السائد في المنطقة ويقتات من الجهل والكره الذي اعمي القلوب والعقول وجعل الجار يتأمر علي جاره, والاخ يقتل اخاه, والمواطن يحرق وطنه ويبعث عبر الفضاء تغريدة فخر وانتشاء. فإن لم يكن الزمان زمانهم, فلن يكون لسواهم الا عذابا وزمهريرا.
الصورة تدمي القلوب, قتل وحرق وعنف في كل مكان, واتجار بالدين, واستهداف لخير اجناد الارض, واستمرار ماكينة الحرب وما تحصده من ارواح ودمار, وتوسع دائرة الارهاب الذي بات يهدد الجميع, مما يستدعي وقفة ومراجعة وتصحيح مسار, فحادثة حرق الشهيد الكساسبة, وحوادث الارهاب التي تعيشها مصر والمنطقة كل يوم, عرت الازمة التي تعيشها امتنا:
فبين من يبحث, اولا, في مراجع الدين الاسلامي عن آية قرآنية او حديث نبوي يبرر او يدين به واقعة حرق الكساسبة مستدلا كل طرف بأدلة, مهما كانت درجة صحتها من عدمه, تخدم توجهه وقناعاته فقط, متناسين ان الواقعة, بكل ما حملته من قسوة ودموية تخالف كل الشرائع الدينية والدنيوية والانسانية, لا تحتاج الي دليل سوي استفتاء القلب. مما يؤكد اننا نعيش' ازمة مفاهيم', طالما هناك من يسخر ويحرف الدين كغطاء لعنفه ودمويته, و'ازمة حوار', طالما لم نجد ارضا صلبة تجمعنا جميعا بسلام. مما يضعنا, مرة اخري, امام إلزامية تجديد الخطاب الديني طالما الخطاب الحالي مفكك ومترهل وفردي, كل واحد يفسره علي هواه ويضع امة كلها علي المحك. لابد من الايمان بأن مواجهة الارهاب الفكري والمادي لن تتم الا من خلال خطاب ديني واع ومعاصر ومنضبط قادر علي ايجاد حلول شرعية مناسبة لمشكلات الواقع, وليس معالجة مشاكل اليوم بحلول الامس. خطاب قادر علي أن يقودنا الي نهضة حقيقية ويساعد عليها لإخراج هذه الأمة من الضياع والدوران الذي تدور فيه حول نفسها. وبين من يجد في الارهاب, ثانيا, نافذة لتبرير التطرف المضاد والتحريض علي العنف الذي بات سلوك وتفكير وثقافة مجتمع, فتلك كارثة اخري تهدد السلم المجتمعي ولا تقل عن كارثة الارهاب نفسه. الارهاب هو بالاساس ظاهرة معقدة مرتبطة بمجموعة من الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع, وهو في قلب موضوع السلطة في الدولة, ولغة المصالح في العالم, وفي قلب أزماتهما واطماعهما وإخفاقاتهما معا. ومواجهته تتطلب اولا ارادة دولية وتعاونا حقيقيا مشتركا, وحكمة واستراتيجية داخلية شاملة وواضحة, بعيدا عن شحن الرأي العام ضد اشخاص او جماعة مما يهدد بتوسع دائرة العنف اكثر وبدل لغة العقل والاعتدال تصبح لغة الكره والعنف والعنف المضاد هي السائدة لتبقي الحرب قائمة وتقطيع اواصر الوطن مستمرة.
اقتلاع جذور الارهاب من المنطقة يستدعي التصدي لمؤسسيه ورعاته وحماته. والقضاء علي داعش يبدأ من القضاء علي الجماعة باعتبارها الام الشرعية لكل هذه التنظيمات المتشددة والارهابية. والقضاء عليهم جميعا يتطلب استراتيحية تبدأ بمواجهة التطرف من خلال بناء وتقنين مجتمعات ديمقراطية تحل محل المجتمعات العنفية القديمة, واعتماد خطاب ديني واضح وخال من مناطق الظل يواكب روح العصر, مع ترسيم الاعتدال وإشاعة المفاهيم الشرعية الصحيحة التي تنهي حالة التناقض التي تعيشها مجتمعاتنا, وتنتهي بالمقاربة الامنية.
لمزيد من مقالات وفاء صندى رابط دائم: