وفى هذا يطول الكلام، مثل: أولاً، كان أصحاب هذه النكتة يستهينون دائماً بأعداد الملحدين فى مصر ويقولون إنهم مجرد بضع مئات، وكانوا يُسفِّهون من قدرتهم على التأثير على تراث عريق فى التدين لدى الشعب المصرى، فكيف صار فجأة لهذه المئات المحدودة القدرة المخيفة على أن تُشكّل خطراً داهماً، حتى إذا كانوا يخططون لذلك وحتى إذا كانت تدفعهم أجهزة خارجية وتوفر لهم الأموال والتأييد؟ وثانياً، فإن القول بخطر أن يفلح الملحدون فى تغيير هوية الأغلبية ينطوى على سذاجة لا يجوز الأخذ برأى أصحابها، الذين يجهلون مدى تعقيد تكوين العقيدة الدينية، ومدى خصوصية التجربة الدينية، ومدى غورها فى نفس أصحابها، ومدى صعوبة تغييرها حتى إذا استخدمت قوى عظمى كلَ أسلحتها فى ذلك! حتى أن هؤلاء لا ينظرون إلى مثل تجربة الاتحاد السوفييتى، التى سيطر فيها نظامٌ علمانىٌ استبدادىٌ على الحكم وعلى شعوب إقليم شاسع لما يزيد علي 70 عاماً، قبض فيها بيد من حديد على حزب واحد وحيد لا ينافسه أحد فى الحكم، وفرض رقابة صارمة على كل الأفكار والفنون الصادرة والواردة، وامتلك فيها كل وسائل الإعلام، وكانت له السيطرة المطلقة على العمليات التعليمية فى جميع الأعمار والتخصصات. ولكن، بمجرد التخلص من هذا النظام، اتضح أن هناك شعوباً على أعلى درجة من التدين، واكتشف العالَم أن اللادينيين هناك هم أقلية صارت تدافع عن حقها فى الوجود! وثالثاً، فإن الدستور، الذى هو الوثيقة الحاكمة بعد الخلاص من حُكم الإخوان، أقرَّ لجميع المواطنين حرية الاعتقاد بشكل مطلق ولم يستثن فى ذلك الملحدين، أو أى فئة أخرى، بما يُفهم منه أنه، ليس فقط إعمالاً لمبدأ المساواة بين المواطنين فى الحقوق، وإنما إدراكاً لأنه من الأفضل للمجتمع أن تكون الأفكارُ فيه علنية حتى ينكشف أىُ انحراف فى مهده ويتمكن المجتمع من مواجهته عن طريق القواعد الدستورية الأخرى التى توفر شروطَها حرياتٌ أخرى مثل التعبير والنشر والتحزب والتظاهر، وأيضاً حتى لا تُكبَت أفكارٌ فى بيئة سرية تدفع بها تحت الأرض بما يوفر لها ظروف الاستفحال ثم يُفاجأ المجتمع بخطر مكتمل الأركان. ورابعاً، فإنه ليس للملحدين أي منابر يَبثّون منها أفكارَهم، بل إن هناك مصائدَ لهم فى برامج تليفزيونية تتسابق فيما بينها لاستضافتهم ضمن فقرات أخرى مثل التنجيم، وقراءة الطالع، وتحضير الأرواح، وصرف العفاريت، وغشيان المحارم، وحمّامات الذكور المثليين، وفتح التليفون على الهواء لأسئلة عن الجنس، ومعظمها ليس للاستفادة العلمية الرصينة وإنما لمحض الإثارة. وكل ذلك فى سعى حثيث من أصحاب هذه البرامج، بكل سبل الجذب المباشِرة الفَجّة دون صنعة أو تنميق، على اقتناص أكبر نسبة من المشاهَدة، ليتحصلوا على أكبر مكسب من الإعلانات التى تحقق أرباحاً مادية هائلة، بما يسمح لهم أن يصرفوا بسخاء على المقدمين والمُعدِّين وعمليات الانتاج الكبيرة، فتكتمل الدائرة وتدور ماكينة الإنتاج التى نشاهدها ونسمع عنها!
ويُلاحَظ أيضاً أن الإشارة إلى إلحاد البعض هى طبعة أخرى من ذات تهمة التكفير! والمقصود فى كل هذه الأحوال إشاعة فوبيا الخطر على الإسلام. ولكن التجربة المعاشة أثبتت أن أمن مصر لم يتهدد قط من الملحدين الذين يصدّهم تراثٌ هائلٌ من التدين وشعبٌ شديدُ التدين قبل أن تسمع البشرية عن الدين، كما أن هناك ترسانة من القوانين التى تعاقِب على ازدراء الأديان إذا فكر أحدُهم فى التجاوز، وإنما كان التهديد الحقيقى، على مستوى أمن الوطن والمواطنين معاً، من بعض الفئات التى ترفع شعارات دينية، وتمنح نفسها صلاحيات التكفير وهدر الدم، والقيام بعمليات قتل لمن يختلف معهم حتى فى التفاصيل، واستباحة محرماته وأمواله! وقد وصل الأمر ببعض الباحثين إلى تحميل هذه الفئات من المتدينين المتطرفين المسئولية عن ظاهرة الإلحاد الجديدة فى بعض الصفوف التى استبدّ بها الفزع من أن تنتمى إلى هذا الاتجاه فى الدين!
وهناك مخاطر حقيقية من تجاهل مثل هذه الدعوات، حتى وهى فى شكل نكت، ذلك أنها قد تؤدى إلى إلهاء المجتمع عن تركيز كامل طاقته للتصدى للخطر الحقيقى المتمثل فيمن يرفعون السلاح ويسعون إلى فرض ما يتصورون أنه صحيح الدين، حتى بعد أن اتخذ الشعب موقفاً عملياً منهم ومن أفكارهم.
الحذار من الانزلاق مع الدعوات التى ترى ضرورة تغيير الدستور حتى نقضى على فتنة الإلحاد، بتقييد النص القائل بأن حرية العقيدة مطلقة بشرط أن تكون مكفولة بما يمسّ الشخص فقط، بمعنى سلبه حرية أن يُعبّر بأى وسيلة عن أفكاره!
هذا استسلام آخر للمتطرفين الذين لا يطيقون أن يكون فى الجوار غيرهم وغير أفكارهم، بل إن التهاون معهم جعل حالهم تتفاقم إلى حدود خطيرة صاروا فيها يرفضون الآخر حتى خارج أوطانهم، وقد أفتى لهم البعض بالفكرة المجنونة التى نرى تجلياتها الآن، والقائلة بأن دار الإسلام، التى يلزم فيها تطبيق الشريعة، ليست فقط حيث الأغلبية من المسلمين، وإنما حتى حيث يوجد مسلم واحد، فيصبح عليه أن يدعو أهل البلاد إلى الإسلام، فإذا رفضوا كان عليه محاربتهم حتى يستجيبوا للدعوة أو يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون!
المُرَجَّح بشدة، إذا أُجرِى تحقيق محايد، أن تكون يد الإخوان وحلفائهم وراء بثّ نكتة مقهى الملحدين، لأنهم هم أول من يستفيد من توريط المجتمع فى معركة تبعده عن مواجهتهم، كما أنها قد تضيف لرصيدهم أكذوبة أنهم هم حماة الإسلام الذى بات مهدداً بعد التخلص منهم!!