رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

محمـــد ناجــى.. بطــلٌ فى روايــة نــادرة..

محمد ناجى الشاعر والروائى العظيم، خبير التحف واللوحات والنجف والفازات والكريستال والصينى والسجاد والأحجار الكريمة والموبيليا القديمة وأعمال النحاس والزجاج والصدف،

 العليم بالعطور والبخور، قارئ الكتب النادرة، المتبحر فى الأديان، الضليع فى الأساطير والحكايا الشعبية وتاريخ الشعوذة والسحر، المستشرِف لمستقبلٍ جامعٍ للبشر، المُنَقِّب عن البيان الساحر، حافظ درر الأشعار، المدقِّق فى كل كلمة، ذوَّاقة الطعام والشراب، المستغنِى عن كل سُلطة، المتعفف عن السؤال، المتحامل على مرضه ليعود أحباءه المرضى، المتقدم فى واجب العزاء، قليل الكلام كثير المعانى، المُقرَّب إلى الصنايعية وباعة الأنتيكات، حامى الأصدقاء من التفاهة ومرشدهم إلى ما هو جميل، المُبهِر لكل من اقترب منه، الغائب عن إدراك العامة وغلاظ القلوب.

لو لم يكن له إرادة فذة وصلابة أسطورية لمات قبل سنوات فى غزو الفيروس للكبد، وفى اقتحام السرطان، ولكنه صمد بشكل لم يصدِّقه أحد.

قابلتُه لأول مرة عام 1991، وجمعتنا غواية اللغة والجرى وراء جذور الألفاظ وتطورها واشتقاقاتها والتغير الذى يطرأ على معانيها فى البيئة وعبر التاريخ، كان عندئذٍ فى الرابعة والأربعين ولم ينشر سوى القليل من القصائد على مدى ربع قرن، ولما اقتربنا أكثر أطلعنى على مخطوطات لبعض أعماله لم تُنشر، فأدهشنى المستوى الراقى واللغة البديعة الآسرة الموجزة الواصلة إلى لبّ ما يسوقه، لغة روائية نادرة فاتنة أخذت الإيحاء والاقتصاد من الشعر، وكان تفسيره لعدم النشر أنه ليس مستريحاً لبعض كلمات هنا وهناك، وأنه مهموم بالبحث عن كلمات أدقّ، قال بالنص: «شوية كلمات عايزة صنفرة».

وبضغوط مع عدد من الأصدقاء نشر روايته الأولى «خافية قمر» عام 94، وبقدر الإعجاب المستحَق الذى نالته من عدد من كبار المثقفين والنقاد ومن دوائر القراء الجادين، فقد أحسّ بالخطر أنصافُ الموهوبين من المسيطرين على معظم صفحات الثقافة التى تمنحهم مكانة فى الوسط وتوفر لهم أن ينتحلوا لأنفسهم صفات الشعراء والروائيين، فتجاهلوها وكأن لا شىء شديد الاستثنائية يستحق الاحتفاء به، فى وقت كانوا يتبادلون مجاملة بعضهم البعض على صفحاتهم بسيل من الأخبار الغريبة التى لم تعرفها البشرية إلا على أيديهم، بأن أحدهم شرع فى كتابة رواية، وأنه لم يضع لها عنواناً بعد، ثم يتابعون بعدها أنه قطع شوطاً فى روايته، ولكن مشاغل الحياة تعيقه عن الإبداع، ثم إن الناشرين يتسابقون لكى يحظى أحدهم بنشرها، ثم إن الرواية ذهبت إلى الناشر، ثم إنها ستصدر بعد غد، ثم غداً، ثم ها هى فى الأسواق..إلخ

وكان ناجى يبتسم إزاء كل هذا ويُبدى قوة احتمال غير عادية، واستمر فى الكتابة والنشر، وتوالت أعماله البديعة: «لحن الصباح»، و»العايقة بنت الزين»، و»مقامات عربية»، و»ليلة سفر»، و»رجل أبله امرأة تافهة»، و»الأفندى»، و»تسابيح النسيان»، ولكلٍ منها «فورم» خاص لا يتكرر مع باقيها. وكان غريباً أن ينتظم فى الكتابة الرائعة دون أن تلتفت له المؤسسة الرسمية لما يزيد على خمس عشرة سنة، برغم سعى المترجمين فى فرنسا وأسبانيا لنيل موافقته على ترجمة بعض هذه الأعمال.

كان له اهتماماته الأصيلة التى تنقذه من الانزلاق فى الهمّ بما يلقاه من هؤلاء ومن أولئك، وكان يُفضِّل أن يذهب إلى خان الخليلى ليمارس أحب هواياته، وقد شاهدتُ منه عجباً، كان يعرف الأحجار الكريمة بالنظر واللمس والرائحة، وكان يشير إلى حَبَّة واحدة فى سبحة أو عُقد، ويقول للبائع إنها «مضروبة»، فيغيرها البائع فى ثانية واحدة، دون أدنى مجادلة، ثم يدخل بعد هذا فى «فصال» رهيب على السعر، فيه من اللطف والدعابة، يأخذ به ما يريده بأقل من نصف الثمن المطروح، وبرغم ما كان يزعمه التجار أنها خسارة كبيرة، إلا أنهم كانوا يشدّونه إليهم كلما ظهر فى الجوار، وكانوا يُظهِرون له المحبة والتقدير. ربما كان يُسعدهم أن يجدوا من يفهم مثلهم فى «الكار»!

وهناك تفاصيل كثيرة فى رواياته من وحى هذه الجولات، فقد ظل لأكثر من عامين ينتظم فى الذهاب إلى أحد التجار ليستكمل أجواء بعض مشاهد لا تتجاوز صفحات قليلة فى رواية «الأفندى».

ثم جاءت رحلته إلى باريس لإجراء الجراحة ملحمة أخرى، لأن التكلفة هائلة، مع إبائه أن يتبرع الأصدقاء، ولكن لوائح الدولة التى تسخو على رجالها تضنّ على مثله ولا تتيح له إلا أقل من خمسة بالمائة من المطلوب، وعندما تحققت معجزة توفير المبلغ، بفضل جهود نقابة الصحفيين واتحاد الكتاب، كان ذهابه إلى باريس حيث مكث ثلاث سنوات، أجرى فيها عملية نقل للكبد، ولما فشلت دخل فى العلاج الدوائى الذى فشل أيضاً، ثم دخل فى متاعب القناة المرارية التى أودت به.

قبل النهاية بشهرين، عندما أحسّ بتفاقم الحالة جاء إلى القاهرة ولم يقل لأحد إنها زيارة للتوديع، وبينما كنا نراجع بروفة روايته الأخيرة «قيس ونيللى»، أراد أن يضع ضَمَّة على كلمة لضبط النطق، فسألنى بخجل كيف تُكتَب الضمة، ومع دهشتى للسؤال قال لى إن صورتها سقطت من ذاكرته! كان الذهن المتقد أخذ يخبو، فأدركت عندها أن الأمر خطير وأن النهاية قريبة.

قال لى إنها من أعراض الكبد، فارتبكت، وحاولت أن أغير من قسوة الحديث، فقلت له ما أعرف أنه يعرفه جيداً: إن «المكابدة» مشتقة من الكَبِد، فضحك وقال: «آه، وكمان: يا كبدى يابنى».

وأما تجربته فى باريس فهى جديرة برواية خاصة، تأسى أنها لم تتحقق أيام الصحة والشباب، قال لى على التليفون: «أنا مش فى باريس، أنا فى غرفة فى باريس، والغرف تتشابه فى العالم كله».

الحقيقة المُرَّة أنه كان مريضاً فى أمسّ الحاجة للمساعدة: لا يعرف الفرنسية، عليه أن يقوم بنفسه بإجراءات التسجيل كأجنبى، وأن يحجز فى المستشفى، وأن يتنقل فى مدينة ضخمة بالمواصلات العامة دون دليل، ولم يسانده إلا آحاد من الأصدقاء المهاجرين، وخذله آخرون، بعضهم لم يتصل به بالتليفون مرة واحدة طوال السنة الأخيرة! وتحت هذه الضغوط الهائلة كان يرجع مسرعاً إلى غرفته فى سباقه مع الموت ليكتب ويراجع ما ينبغى مراجعته، وكان عليه فى الأسبوع الأخير، وهو فى آخر رمق، أن يتولى بنفسه البحث عن سكن أرخص مع شُحّ موارده! ومات وله استحقاقات فى ذمة بعض الصحف ماطلت وهى تراه يحتضر!

[email protected]
لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب

رابط دائم: