كان الإثنان على الأرجح يتوقعان أن يحملهما المصريون على الأعناق، فقد جاءت قبل ذكرى فض اعتصامى رابعة والنهضة بثلاثة أيام فقط، وكانا يعتزمان عقد مؤتمر صحفى فى القاهرة لعرض تقرير المنظمة عن أحداث فض الاعتصامين، لـ”تسخين” الأجواء قبل حلول ذكرى الفض نفسها التى توعدت فيها الجماعة الإرهابية وحلفاؤها بشن هجمات جديدة، ولم يكن الإثنان يعتقدان أنه ستتم إعادتهما على الفور إلى الجهة التى جاءا منها “لأسباب قانونية”، بل ولأسباب منطقية أيضا، أهمها أن مصر أصبحت دولة ولها رئيس وحكومة، ولم تعد مستباحة لكل من هب ودب ليأتى وينصب نفسه قاضيا، ليس هذا فحسب، بل إن هيومن رايتس ووتش لم تكتف لنفسها بأن تكون ذراعا لأطراف ودول خارجية لتنفيذ أهدافها ضد الدول الأخرى، ومن بينها مصر، وإنما رضيت أيضا أن تسقط فى فخ التقارير المسيسة وغير الموضوعية، سواء عن قصد أو عن غير قصد، وأن تكون لسانا طويلا لحركات العنف والفوضى على حساب المواطنين الآمنين.
ومن يقرأ تاريخ هيومن رايتس ووتش جيدا يعرف أن هذه المنظمة كانت من بين كثير من الأذرع السياسية والحقوقية التى استخدمتها دول كبرى، وبخاصة الولايات المتحدة، فى ترويج أيديولوجيتها وفرضها على شعوب الأرض، فكانت تضرب بضراوة، وتحت الحزام أحيانا، بفضل ما تبثه من تقارير بين الحين والآخر ضد الدول “الضحية”، أو المستهدفة، ونادرا ما كانت تخرج عن هدفها هذا، إلا لمجرد درء الشبهات.
والغريب أن روث وليا ويتسون جاءا لإشعال النيران والكراهية فى القاهرة، فى توقيت متزامن مع “خرس” المنظمة تقريبا تجاه العدوان إسرائيلى على غزة، كما أن هذا الحماس الذى تبديه المنظمة تجاه قضية رابعة لم يظهر بالقدر نفسه فى انتهاكات حقوقية أخرى كثيرة مثل فضائح القوات الأمريكية فى العراق وأفغانستان وباكستان، وفضيحة عبودية العمال الآسيويين فى قطر، وجرائم تنظيم داعش فى العراق وسوريا، وجريمة قصف القوات الأوكرانية للمدنيين فى شرق أوكرانيا بدعم الغرب الذى تنفذ هيومن رايتس سياساته.
والمخجل، أن المنظمة لم تعلق بشيء الى الآن ولا قبل ذلك على شهداء الجيش والشرطة منذ 30 يونيو 2013، وكأن هؤلاء ليسوا من بنى الإنسان الذين يدخلون فى اختصاص المنظمة.
ولم تتحدث هيومن رايتس أيضا عن جرائم إلقاء أطفال عمارة الإسكندرية، ولا إحراق 80 كنيسة، ولا جريمة كرداسة والتمثيل بجثث رجال الشرطة، ولا تخريب ممتلكات المواطنين، ولا ترويع الآمنين، ولا تفجير محطات الكهرباء والقطارات والأوتوبيسات والمترو، ولا خطف الرهائن، فضحايا هذه الجرائم جميعا لا يستحقون أى عطف من السيد روث وزميلته السيدة ليا وتسون!
وكانت هيومن رايتس ووتش قد ظهرت إلى الوجود منذ عام 1978 فى خضم أجواء الحرب الباردة، وأسسها روبرت بيرنشتاين، والذى عمل رئيسا لها قبل ذلك، وكان هدف التأسيس منذ البداية هو التحقق من أن الاتحاد السوفييتى السابق يحترم اتفاقات هلسنكي، فهى منظمة موجهة أيديولوجيا منذ زمن طويل، ولهذا، دأبت المنظمة على دس أنفها فى شئون الدول والحكومات، وظلت لسانا معبرا عن تيار عالمى صاعدا تقوده واشنطن ينادى بسيادة الشعوب وزوال عصر الحكومات، عصر الفوضى الخلاقة والثورات والفتن والحركات والأحزاب والتنظيمات وحكم الشارع والنشطاء، لا عصر المؤسسات والدساتير والقوانين.
ولعل من أبرز الانتقادات الموجهة دائما إلى هيومن رايتس ووتش أنها بالفعل تنحاز دائما إلى طرف دون آخر، وتفضل دائما عند إجراء تحقيقات تقصى للحقائق الاستماع فقط إلى طرف دون آخر، ولا تكترث بالروايات الرسمية أو البيانات الحكومية، وكأنها من المحرمات، بينما المعلومات الوحيدة التى تعتمد عليها هى التقارير التى يكتبها نشطاء ومندوبو المنظمة فى الدول المختلفة، وهم معظمهم نشطاء وسياسيون ومسيسون لا خبرة لهم، ومساحة الأهواء الشخصية فى عملهم شاسعة للغاية.
كما لا تعرف المنظمة أى قواعد منضبطة فى عملها أو تقاريرها، فالتلون وارد، والانحياز وارد، والأغراض واردة، حتى وإن صلحت النيات فى بعض الحالات.
وبخلاف الانحياز، تواجه المنظمة أزمة مصداقية علمية خطيرة تقوض من مصداقيتها، فهى متهمة دائما بتواضع مستوى أبحاثها، وعدم استنادها إلى مناهج البحث العلمى المتعارف عليها، كما أنها ترتكب أخطاء عدم الدقة فى تقاريرها، والسبب يرجع لاعتمادها دائما على تقارير مصادر غير رسمية، أو من شهود عيان مجهولين غالبا ما يتم اختيارهم بأسس غير موضوعية أو علمية، وهو ما ينطبق مثلا فى حالة تقرير المنظمة عن فض رابعة والنهضة، والذى استند إلى روايات 200 شاهد ليس معروفا عنهم من هم ولا أين كانوا ولا كيف تم اختيارهم.والانتقادات الموجهة للمنظمة كثيرة، فإمبراطور الإعلام روبرت ميردوخ أبدى استياءه من طريقة عمل المنظمة وبخاصة فى مناطق الحروب، ومن تقاريرها ذات الطابع الأمنى أو العسكري، نظرا لعدم وجود أعضاء لديها من الخبراء العسكريين أو الأمنيين السابقين، ولكنها تسلم نفسها لما يقوله “مدنيون” أو “نشطاء موجهون”. وسبق لصحيفة “التايمز” البريطانية أن سخرت بشدة من المنظمة لأنها تزخر بالعاملين الذين كانوا فى الأساس من النشطاء والسياسيين المعروفين بأفكارهم واتجاهاتهم المتشددة أو المتطرفة، بل إن روبرت بيرنشتاين نفسه مؤسس المنظمة وجه انتقادات حادة فى 2009 إلى طريقة عمل المنظمة، وبخاصة تقاريرها عن الشرق الأوسط، والتى يلاحظ أنها ارتفعت بنسبة الضعف تقريبا بعد سيولة ما بعد “الربيع العربي”.إذن، جاء ممثلا هيومن رايتس ووتش إلى مصر على غير هوى نظامها وشعبها ومؤسساتها ودستورها وقانونها، وليدافعا عن الجانى فى وجه الضحية، فكان الرد الطبيعى هو إخراج “الكارت الأحمر”، لعل هذا الموقف المهين “المستحق” يكون دافعا للمنظمة لمراجعة نفسها وطريقة عملها، وضميرها أيضا.