ومن بين من أثاره هذا المشهد المعيب رجل الـ«كيه.جي.بي.» فلاديمير بوتين، الذى سرعان ما كانت موهبته وقوة شخصيته سببا فى اختيار يلتسين له ليكون خليفة له كرئيس انتقالى عام ١٩٩٩ قبل أن يتم انتخابه رئيسا عام ٢٠٠٠.
ولأن بوتين كان يدرك تماما حقيقة ما لحق ببلاده بسبب جورباتشوف الذى ألبس الإمبراطورية السوفيتية ثوبا رديئا لا يناسبها، فقد كان أول شعار رفعه الرئيس الجديد وفاز به بثقة شعبه كان "استعادة المجد القديم"، وبالفعل، نجح فى تحويل هذا الشعار إلى واقع فى غضون سنوات قليلة، سواء فى السنوات التى تولى فيها الرئاسة، أو فى تلك التى تولى فيها رئاسة الوزراء مع الرئيس السابق ورئيس الوزراء الحالى ديمترى ميدفيديف.
ولا ريب فى أن روسيا كدولة تملك المقومات الفطرية للنجاح والتقدم، سواء تلك التى يطلقون عليها الحضارة والتاريخ، أو حتى تلك التى يمكن تسميتها بجينات النبوغ والتفوق، فكلاهما صحيح.
ومع ذلك، فالأرقام، لا التاريخ، توضح لنا : لماذا روسيا دولة عظمي، ولماذا بوتين رئيس قوي، بغض النظر عن كون روسيا وريثة الاتحاد السوفيتى أم أنها دولة حديثة نشأت منذ تولى بوتين السلطة.
فالقضية ليست مجرد ثقافة وحضارة وعظماء وفلاسفة، ليست قضية لينين وماركس وجاجارين ومسرح البولشوى وتولوستوى وتشايكوفيسكى وديستوفيسكى وسولجينتسن وكاسباروف، وليست قضية كلمات نشيدها الوطنى المهيب الذى يقول : "روسيا دولتنا المقدسة"، إنما القضية قضية أرقام حاضر ومستقبل.
هذه الأرقام تقول إن روسيا هى أكبر دول العالم مساحة، وأكثرها تنوعا من الناحية الجغرافية والتضاريسية، وبالتالى فى الموارد، من البترول والغاز الطبيعي، إلى المحاصيل الزراعية بمختلف أنواعها، والثروة الحيوانية، وحتى المزارات السياحية.
والأرقام تقول أيضا إن روسيا من بين أكثر دول العالم سكانا، إذ يبلغ عددهم نحو ١٤٥ مليون نسمة، ومتوسط دخل الفرد فيها يزيد على ١٨ ألف دولار سنويا.
واقتصاديا، تملك روسيا أكبر الاحتياطيات العالمية من الغاز الطبيعى والفحم، وهى أيضا خامس أكبر منتج للطاقة المتجددة، وثالث أكبر منتج للكهرباء فى العالم، وتخصص الحكومة ميزانيات هائلة لأبحاث تطوير التكنولوجيا النووية وتكنولوجيا الطاقة.
ورغم الحرص على نفوذ الدولة وهيمنتها، فقد نجحت روسيا فى تحويل نفسها بعد انهيار الاتحاد السوفيتى من دولة ذات اقتصاد منغلق ومنعزل إلى دولة تعتمد بصورة أكبر على اقتصاد السوق والاقتصاد المتكامل مع العالم الخارجي، وأجرت إصلاحات هائلة لتطوير الاقتصاد ومحاربة الفساد ومحاكمة الذين أثروا على حساب الشعب.
وعلى الرغم من أن معدل النمو المتوقع للاقتصاد الروسى يصل إلى ٢،٥٪ حتى عام ٢٠٣٠، فإن بعض التكهنات تشير إلى أن استمرار الأزمة الأوكرانية والعقوبات الغربية قد تخفض توقعات النمو إلى مستوى الصفر فى المائة، ومع ذلك فهناك آراء أخرى تقول إن الدول الغربية هى التى ستتضرر أكثر من روسيا من هذه العقوبات رغم ما تبثه وسائل الإعلام الغربية من تقارير مغلوطة ومغايرة للواقع.
والأرقام تقول أيضا إن قيمة صادرات روسيا إلى الخارج بلغت ٥١٥ مليار دولار، وأبرز الصادرات هى المنتجات البترولية والغاز الطبيعى والمعادن والأخشاب والكيماويات، ونسبة البطالة لديها تعد من بين الأفضل فى العالم، إذ أن نسبتها ٥،٨٪ فقط.
وروسيا أيضا خامس دولة فى العالم فى إنتاج القمح بفضل ما تملكه من مزارع مثالية شاسعة فى سيبيريا تزرع القمح وكل أنواع المنتجات الغذائية، كما أنها من أكبر الدول المستوردة للغذاء أيضا، بدليل أن أوروبا تصرخ الآن من الخراب الذى لحق بها بسبب العقوبات الغربية على روسيا التى تمنع تصدير منتجات هذه الدول للأسواق الروسية!
كما تعد روسيا من أكبر الأسواق المصدرة للسائحين فى العالم، إذ تحتل المركز الخامس فى قائمة الدول التى يتدفق سائحوها على دول العالم الأخري، وفقا لإحصائية منظمة السياحة العالمية عام ٢٠١٢، وربما تكون قد وصلت حاليا إلى المركز الثالث أو الثاني، كما أن السائحين الروس هم ثانى أكثر السائحين إنفاقا فى رحلاتهم بعد الصينيين.
وعسكريا، ورثت روسيا من الاتحاد السوفيتى ترسانته النووية والعسكرية وأقمار التجسس وكافة أشكال الصواريخ الاستراتيجية، فضلا عن جيش قوى عالى التسليح قوامه أكثر من مليون فرد، وقواتها البحرية والجوية من بين الأكبر عالميا، كما تملك أكثر من ١٦٠٠ رأس نووية، وهى بصفة عامة من بين أكبر موردى الأسلحة فى العالم وتصدر أسلحتها إلى ٨٠ دولة على الأقل، وهى أيضا خامس أكثر دول العالم بصفة عامة فى مجال الإنفاق العسكري.
وحتى سياسيا، نجحت روسيا فى عهد بوتين فى التوازن بين الحفاظ على كيان الدولة الاتحادية والقضاء على الحركة الانفصالية فى الشيشان وجمهوريات شمال القوقاز جنوب روسيا، وبين تقديم كافة المعاملات المحترمة للمسلمين فى روسيا، لدرجة أن روسيا أصبحت عضوا "مراقبا" فى منظمة المؤتمر الإسلامى منذ عام ٢٠٠٥، كما لم يفت فى عضد بوتين ولا الدولة الروسية المظاهرات المعارضة له بعد ما يسمى بـ"الربيع العربي" فى ٢٠١١، ولا تقارير منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الائتمانية التى تحاول القضاء على سمعة روسيا خارجيا بأى صورة خدمة لمصالح أمريكا والغرب.
كما حافظت روسيا على وجودها القوى على الساحة الخارجية، واتبعت سياسة قائمة على عدم التدخل فى شئون الآخرين وعدم فرض السياسات والثقافات المحلية على أحد، فكانت النتيحة أنها كانت عضوا فاعلا فى مجموعة الثمانى الصناعية الكبري، ثم مجموعة العشرين، ومجموعة "بريكس"، وكذلك اللجنة الرباعية للسلام فى الشرق الأوسط، والمحادثات السداسية حول كوريا الشمالية، ومحادثات إيران النووية، ولا ننسى أن دورها كدولة دائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى أضفى الكثير من التوازن على الكثير من قرارات المجلس.
أما عن بوتين، الذى سخر منه المعلقون الروس والغربيون لدى توليه السلطة فى باديء الأمر، فقد أثبت أنه شخصية جديرة بزعامة دولة عظمى صنعها هو بالأرقام ولم يصنعها بالتاريخ فقط، ويكفى القول إن شعبيته تزيد على ٧٤٪، وأن الأصوات المعارضة له تكاد تكون نادرة وضعيفة مهما نفخ فيها الإعلام الغربي، خاصة بعد أن تعلم الروس الدرس بعد "مقلب" جورباتشوف، بدليل أن رجلى الأعمال الشهيرين بوريس بيريزوفيسكى وفلاديمير جينسكى اللذين عارضاه هربا إلى الخارج ولم يبك عليهما أحد!
ولهذه الأسباب، توصف روسيا بأنها دولة عظمي، وبوتين بأنه رئيس قوي، ولهذا أيضا، لا يكره الغرب رجلا مثله، ولا يحب الغرب أيضا رجلا مثل جورباتشوف!