المُرَجح أن يفتح مشروع تطوير قناة السويس جبهات كثيرة على مصر! لذلك ينبغى أن يكون إلى جوار قمة السلطة حالياً أفضل الخبراء يعكفون على حصر كل الاحتمالات المتوقعة لخطط أعداء مصر الأقوياء الألدّاء الذين حسموا أمرهم منذ محمد على باشا على إفشال أى مسعى جاد لأن تنهض مصر
وأن ترتقى أوضاعُ مواطنيها، حتى يمنعوها من أن تمارس دورها الطبيعى فى الجوار وفى الإقليم وحول العالم، لأنهم يخشون أن تتهدد مصالحُهم بشدة إن قامت مصر بذلك، أو إذا كان لها إمكانية أن تقوم بذلك، وأهم مصالحهم فى العقود الأخيرة أن تكون إسرائيل بلا منافس، وبلا قوة حقيقية تتصدى لها، أو حتى أن تكبحها عن الغلوّ فى إثبات أنها القوة الوحيدة فى المنطقة! المُفتَرَض أن يُطرَح هذا الأمر الآن بقوة مع البدء فى العمل الجاد فى مشروع تطوير قناة.
هذه المخاطر هى بعض ما يترتب مباشرة على الطموح الوطنى المًستَحَق الساعى بجدية إلى إنجاز مشروعات عملاقة تُوقِظ الهمم وتَستنهِضُها وتُحَفِّز الطاقة للانطلاق، بما يدفع بالاقتصاد إلى الأمام ويرفع مستويات حياة الشعب ويشحنه بالأمل فى المستقبل وبإلهامات كيفية نيل حقوقه وضرورات القيام بواجباته، التى تضمن له مصالحه، على الأقل داخلياُ وفى الإقليم، وهذا بالضبط هو أهم ما يحققه مشروع تطوير قناة السويس، بعد أن ينجح فى جانبه الاقتصادي، وهو بالضبط ما يخشاه أعداء الوطن، لأنهم يعلمون أنها ستكون مجرد بداية تتبعها خطوات أخرى تُحْدِث الطفرة التى لا يريدونها لمصر!
هذا قَدَر مصر عبر تاريخها الحديث، وهو جزء من خصوصية الحالة المصرية، حيث يُراد لها أن تتعثر وأن يظل شعبُها فى حال من البؤس لا يسمح له إلا بالانكفاء على ذاته، إلى حد تلتبس عليه الأمور إلى ما قد يُفقِد الوعى العام إدراكه السليم، فتختلط عليه المشاهد، ويرتبك إزاء حقوقه وواجباته فى تحقيق أمنه الوطنى ودوره الحضاري، إلى درك تتبنى فيه بعضُ كتابات وحوارات النخب كلامَ العامة البسطاء الذين يأخذون بظاهر الأمور وينساقون وراء حملات الدعاية! انظر فقط إلى التعليقات القائلة بأننا تعبنا وعانينا كثيراً من العرب وأنه آن الأوان إلى أن ننظر إلى انفسنا!
ولا يجوز الاطمئنان إلى الدبلوماسية الكاذبة من أبواق الأعداء التى تعلن سعادتها عن أن تتجه مصر إلى التنمية بهذا الحجم وهذا الطموح، وإعرابهم المنافق عن رغبتهم فى أن تعود مصر إلى دورها فى الإقليم، فعبد الناصر لم يُضرَب بأيديهم إلا لهذا السبب، وهى الضربة التى لا تزال ندوبُها فى جسد وروح البلاد، كما إنهم لم يكتفوا بإفشال تجربته وإنما عملوا على أن يكون خلفاؤه على طريق آخر يطمئنون إليه، وقد نجحوا فى ذلك عبر أربعة عقود، وكان آخر نجاحاتهم المدوية بوصول الإخوان إلى الحكم، ثم هذا العام السعيد لهم جميعاً، والذى كان كارثياً على أمن الدولة المصرية وعلى المصالح الأساسية للشعب المصري.
ومن الحكايات الكاشفة التى تفضح بعضَ من قبلوا بالتبعية وجرّوا الشعب لها، ما نسبه البعض إلى حسنى مبارك أنه قال فى حوار خاص إنه يتعمد أن تظل مصر فى دائرة العوز بسبب نقص القمح، لأنه إذا حل المشكلة فإن أمريكا سوف تضربه!! وهذا يفسر كيف تمسكت به أمريكا لثلاثة عقود على عرش مصر، ولم تلجأ إلى التخلص منه إلا بعد أن صار عبئاً عليها مع توسع مخططاتها!
ولعل الخطأ الكبير لعبد الناصر أنه لم ينقل الحالة الاستثنائية للالتفاف التاريخى للشعب حوله، إلى وضع سياسى تستقر فيه هذه الحركات والتيارات، التى آمنت بتجربته وتحمست لها حماساً منقطع النظير، فى أشكال تنظيمية حقيقية، وليس فى الصيغة المفبركة للاتحاد الاشتراكي، حتى تكون هى الأرضية الصلبة التى كان يمكن لها بعد رحيله أن تتصدى للارتداد على الطريق المعاكس، أو على الأقل كان يمكن لها أن تُكَبِّد الارتداد تكاليف باهظة بدلاً من أن ينجح بهذه السهولة المدهشة التى حدثت.
ونحن نعيش الآن زمناً آخر، قد يخضع لذات القواعد العامة، ولكن أدواته اختلفت كما أنها باتت أكثر تعقيداً، وصارت أهم أدوات حماية التجربة الآن أن تتوافر للجماعات وللأفراد أفضل ما يكون من الحريات العامة والخاصة، بما يزيد كثيراً عن الحق فى التنظيم، هذه الحريات هى الحامية الحقيقية لأمن الوطن وللتماسك الشعبى وللتجارب التى تستهدف إنجاح المشروعات العملاقة، وهى التى توفر البيئة الصحية للاستثمار وجذب المستثمرين الجادين، لذلك ينبغى احترام حق الشعب فى المعرفة، وتسهيل تدفق المعلومات بما يتيح المناقشات التفصيلية المثمرة، وينبغى الأخد بالشفافية التى تحاصر الفساد، ويصبح من الممكن الإمساك حتى بالفاسد الصغير المختبئ فى ركن بعيد، وبحقوق التفكير والتعبير والتظاهر يمكن التصدى مبكراً لأى نزوع للكسب غير المشروع، بل وتصويب المشروعات التى يعتورها فساد أو عطب قبل البدء فيها، بل وإلغاؤها إذا تطلب الأمر، بل وطرح الاجتهادات والابتكارات المستحدثة التى يحتضنها المناخ العام الصحي، ويدعو إلى تبنيها والاستفادة منها، وتكريم أصحابها.
لذلك لا ينبغى التهاون مع ملاحظات مجلس الدولة على مشروع عقد تطوير القناة، وإنما يلزم الأخذ بها، أو اللجوء للسبل القانونية التى تنفى أية شبهة قد تعلق بالشرعية الكاملة للمشروع، كما لا يجوز رفض اعتراض أحد أصحاب المكاتب الاستشارية على الإجراءات التى طُبِّقَت فى ترسية العطاءات فى مشروع القناة، بل يلزم أخذ اعتراضه فى الحسبان، إنْ كان صحيحاً، وإجراء التصويب الممكن، أو تعويضه عن الضرر الذى لحق به.
[email protected]لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب رابط دائم: