وبغض النظر عما حققه منتخب البرازيل من نتائج فى كأس العالم، تبقى البرازيل ، "الدولة" و"الحكومة" و"الرئيسة" و"الاقتصاد" ، هم الأبطال الحقيقيون لمونديال 2014 الذى قارب على الانتهاء.
على الرغم من الصعوبات الفائقة التى واجهتها البرازيل كدولة قبل المونديال، إما بسبب محاولات أثرياء العالم من خلال الاتحاد الدولى لكرة القدم "الفيفا" لإفشال البرازيليين وانتقاد استعداداتهم وقدراتهم، أو بسبب عدم قوة الاقتصاد البرازيلى الصاعد بما يكفى لتحمل أعباء استضافة حدث عالمى كهذا، أو حتى بسبب ضعف إجراءات الأمن والسلامة فى بلد يعد من بين أكثر دول العالم التى تعانى من انتشار الجريمة، أو بسبب الإضرابات "الابتزازية" التى نظمتها بعض النقابات العمالية البرازيلية قبل البطولة، والمظاهرات "السخيفة" التى نظمتها الجماعات اليسارية والفوضوية لتعطيل المونديال وتكدير المزاج الكروى العالمي، على الرغم من ذلك كله، كان المونديال فرصة للبرازيل لإظهار قوتها كدولة خرجت من مصاف الدول الفقيرة إلى النامية إلى الصاعدة لتصبح سابع أقوى اقتصاد فى العالم، تماما مثلما كانت أوليمبياد سول 1988 هى النقطة الفاصلة التى تعرف فيها العالم على صعود كوريا الجنوبية من مصاف الدول النامية إلى فئة الدول الشرسة اقتصاديا.
فقد أظهرت البرازيل من خلال المونديال أنها دولة قوية تملك حكومة صلبة ورئيسة فولاذية، فقد نجحت فى استضافة أنجح بطولات كأس العالم فى التاريخ فنيا وتنظيميا وجماهيريا واقتصاديا، وهو ما شجع الرئيسة ديلما روسيف – 66 عاما - على اغتنام فرصة المونديال لإعلان ترشحها عن حزب العمال اليسارى للانتخابات الرئاسية فى 5 أكتوبر القادم للفوز بولاية ثانية. وبعد أن كان بعض المحللين يرون تراجعا فى شعبيتها، وخاصة بعد واقعة الهتاف العدائى ضدها أثناء حضورها مباراة الافتتاح بين البرازيل وكرواتيا، جاءت استطلاعات الرأى بعد ذلك لتؤكد أن روسيف – تلميذة الرئيس السابق لولا دا سيلفا فى النضال ودخول السجون - ما زالت تتمتع بشعبية جارفة بين البرازيليين، بدليل أنها لم تخسر سوى نقطتين فى شعبيتها، حيث يرى 38% من البرازيليين الآن أنها ما زالت الأفضل لقيادة البلاد.
وطالما تحدثنا عن قوة الدولة، فقد أظهرت البرازيل قدرتها الفائقة على توفير الأمن والحد من الجريمة فى البطولة، بصورة قدمت البرازيل السياحية فى أبهى صورة، مما سيساعد على إنعاش اقتصادها من عائدات السياحة لسنوات مقبلة، فقد اختفت من وسائل الإعلام الصورة الذهنية القديمة عن شوارع البرازيل غير الآمنة أو التى تمتليء بعصابات السرقة بالإكراه وغيرها، وظهرت بدلا منها صورة الشوارع النظيفة وناطحات السحاب العملاقة والمناظر الطبيعية الخلابة والشعب الودود.
وطالما جاء الحديث عن الاقتصاد، فالأرقام تقول إن كأس العالم وحده ساهم فى توفير مليون وظيفة، وارتفاع كبير فى أرقام الأعمال، وخاصة بالنسبة لصغار التجار الذين حققوا مكاسب طائلة من بيع الـ"تى شيرتات" والأعلام والقبعات ومزامير الفوفوزيلا بأعلى الأسعار، فضلا عن باقى الأنشطة الأخرى.
وضخ مونديال 2014 إجمالا مبلغ 30 مليار رى برازيلى فى الاقتصاد البرازيلى على الفور – أى ما يعادل 10 مليارات يورو – وهو تقريبا نفس المبلغ الذى تم إنفاقه على إقامة المونديال.
وإذا عدنا للحديث عن قوة الدولة، تمكنت البرازيل من وضع جماعات الفوضويين واليسار المتطرف فى حجمهم الحقيقي، فبعد أن هددت هذه الجماعات بإفشال المباريات بدعوى أن الفقراء كانوا أحق بنفقات المونديال، تصدت الشرطة لهؤلاء بكل قوة وحزم، وكانت أعداد المتظاهرين قليلة للغاية إذا ما قورنت بملايين البرازيليين الذين تابعوا المونديال، وعلى رأسهم الفقراء أنفسهم الذين يعتبرون كرة القدم فى بلادهم كالماء والهواء.
والأمر نفسه ينطبق على النقابات العمالية "الانتهازية" التى حاولت التعامل مع البرازيل على أنها "جمهورية موز" بالحصول على مكاسب قبل المونديال عبر التهديدات بتنظيم إضرابات وشل حركة المواصلات فى المدن المختلفة، ولكن لم تؤثر هذه التهديدات بشيء، وبدت الحكومة البرازيلية أمام العالم أنها قادرة على حماية نفسها ومواطنيها وسائحيها وعلى وضع حدود لحكاية الديمقراطية والحريات هذه التى يتشدق بها الغرب، وهو أمر رسم صورة ذهنية رائعة للبرازيل ستفيدها فى جذب مزيد من السائحين والمستثمرين فى المستقبل القريب، تماما مثلما أفادتها خطط محاربة الفقر والإسكان والرعاية الاجتماعية الصارمة التى طبقتها فى عهد دا سيلفا وروسيف فى تحقيق طفرة فى اقتصاد البلاد، فانتقل 36 مليون برازيلى – أى 18% من إجمالى السكان – إلى الطبقة المتوسطة فى سنوات قليلة، وتحولت البرازيل بصفة عامة من دولة فقيرة إلى نامية ثم إلى صاعدة، متوسط دخل الفرد فيها الآن يصل إلى 12 ألف دولار سنويا.
.. إذن فازت البرازيل سياسيا واقتصاديا ومعنويا خارج المستطيل الأخضر، ولكن الذين خسروا بحق هم الفوضويون والانتهازيون وتنابلة السلطان والمتحدثون عن الحقوق والمظالم، وكل من أيدهم فى الغرب!
ولعلنا نتعلم الدرس!