د. محمد فايز فرحات
ماجد منير
‏‎«قاهرة» علاء الديب
18 يوليو 2025
بهاء چاهين


حسنا فعلت دار الشروق: أن نشرت مؤخرا العمل الأدبى الأول لكاتبنا الكبير علاء الديب، وهو مجموعة قصصية تنتهى برواية قصيرة سمّاها (القاهرة)، وحملت المجموعة كلها هذا الاسم عنواناً لها. الكتاب صدرت طبعته الأولى عام 1964 ـ حين كان علاء الديب فى الخامسة والعشرين؛ زهرة ليمون فيحاء تتأرج شِعرا نضرا وفنا طازجاً قفز فى الزمان ثلاثين عاماً على الأقل، ليؤسس دون أن يدرى لقصيدة النثر المصرية، التى تبرعمت كحركة أدبية سرعان ما أصبحت صرعة سائدة منذ تسعينيات القرن الماضى. تزينت هذه الطبعة بلوحة غلاف الطبعة الأولى بريشة الفنان الكبير جمال كامل، والرسوم الداخلية بريشة الفنانين المبدعين آدم حنين وإيهاب شاكر، وقدم لهذه الطبعة الكاتب المتألق سيد محمود بكلمة مليئة بالحب والعرفان، من جيلنا وما تلته من أجيال، لجميل واحد من أكثر وأصدق وأكرم من احتضنوا أعمال الطالعين الواعدين منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، وحتى رحيله عام 2016، تاركاً أريجه الخاص مبدعاً وناقداً ومبشراً بمواهب مصرية أصيلة. وكانت مجموعة القاهرة باكورة إبداعاته القصصية والروائية، وتلاها من المجموعات: (المسافر الأبدى) و(صباح الجمعة)، ومن الروايات: (زهر الليمون) و(عيون البنفسج) و(قمر على المستنقع) و(أطفال بلا دموع) و(أيام وردية). ومنذ القصة الأولى لمجموعة (القاهرة) يتبدى للقارئ الأريب أن علاء الديب «شاعر» يكتب النثر القصصى. تبدأ القصة ـ وعنوانها (العاصفة) ـ بهدأة نفسية كلها تحفز لانفجار روحانى وشيك، يشبه الوجد الصوفى، أو هى لحظة التهيؤ الوجدانى لحالة عارمة من الإلهام الفنى: (أوراق الأشجار تداعب الشباك(..) لِمَ يستيقظ الليلة؟ الأولاد نائمون، وغداً فى الصباح ينتظره العمل والأوراق.. أوراق أخرى بيضاء ميتة لا تتحرك.. تزحف.. خمسون عاماً مع الأوراق البيضاء فى النهار، وفى الليل هنا يسمع الأوراق فى الشباك)... ويشرح لنا بطل الحكاية كيف أن الليلة تبدو على السطح وكأنها تشبه كل الليالى: (لقد شرب الشاى ونام ونامت زوجته، تماماً كما يفعلان كل مساء) ثم يعيد السؤال: (لمَ استيقظ الليلة؟.. لِمَ يسمع كل هذا الصمت؟.. خمسون عاماً ينتظر الشىء أن يحدث.. ولكنه لا يحدث (...) خمسون عاما، وشعر أبيض، وعروق فى اليد.. وجبهة كبيرة وصمت.). ثم: (انتفض من السرير واقفاً عندما رأى البيت كله مضاءً بنور البرق..).



يخرج الكهل الموظف الراقد بجوار زوجته للعاصفة. زوجته تناديه من الشباك المفتوح: (- ألن تدخل؟ البيت يكاد أن يطير. فيجيبها المفتون من الخارج: (- أشجارى.. عائلتى تفرح معى.. الأشجار... ـ والأولاد؟ ماذا أقول لهم عندما يسألون عنك ـ قولى لهم إنه خرج مع العاصفة وأنتم نائمون .. واختفى شبحه الأبيض بين الأشجار). هكذا تنتهى القصة الأولى، عن رجل أخذته الجلالة، جلالة المحبوب الكونى، أو فرحة الإبداع الفنى، أو التمرد على النمط السائد، أو لذة الموقف الشعرى من النثر الحياتى اليومى. ولن يختلف الأمر كثيراً، حين ننتقل إلى القصة الثانية (ثلاثة خطابات إلى حبيبة مجهولة)، وإلى عدد غير قليل من قصص المجموعة الأخرى، حيث الشعر يطالعنا من أول سطر. وفى مواجهة هذا الجمال الشعرى، قررت أن أتعامل مع هذه المجموعة القصصية، كما أتعامل عادة ويتعامل غيرى من نقاد الأدب مع النصوص الشعرية، معتمدا على الاستشهاد، وكما فعلت الآن مع القصة الأولى، وسوف أكتفى بها مؤقتاً، على أن أواصل استشهاداتى فى المقالة أو المقالات التالية. ولكن قبل أن أضع القلم، أحب أن أشارككم خاطرة وردت على ذهنى الآن؛ وهى وجه التشابه بين هذه القصة الأولى من المجموعة الأولى لعلاء الديب، وبين فاتحة كتاب نجيب محفوظ القصصى الأول، تلك التى تحمل - وتحمل المجموعة كلها - عنوان (همس الجنون)، وصدرت قبل (قاهرة) الديب بربع قرن. ففى الحالتين، إنسان يستعبده روتين الحياة، ثم إذا به يتخلص فجأة من كل القيود النفسية والاجتماعية، فيتجرد إنسان محفوظ، الذى يشبه كاتبه فى وقاره ونظامه اليومى الصارم، من كل ملابسه، فى المقهى الذى طالما شهده تمثالاً مزمناً من الروتين، ويندفع فى الشارع عارياً كما ولدته أمه؛ أمّا موظف علاء الديب، عبدالأوراق الحكومية الميتة، فيقرر بعد خمسين عاماً من الخضوع أن ينتمى إلى العاصفة.. أقول: يمكن النظر إلى القصتين كافتتاحية نموذجية لعمر من الإبداع، فما الإبداع إلا التمرد الشعرى على نثر الحياة.



ونواصل فى المقالة القادمة بإذن الله