ظهرت مؤخرًا كتابات كثيرة وأبحاثٌ متخصصة فى دراسة مستقبل الحياة على كوكب الأرض فى ظل التزايد الطردى لعدد السكان الذى أصبح يناطح الثمانية مليارات نسمة، وبدأ الباحثون يفتشون فى كتابات مالتوس ومدرسته المتشائمة فى علم السكان، وشعر الكثيرون أننا أمام تحدى الوجود قبل أى تحدٍ آخر يمكن أن يسبقه فى تأكيد سلامة البشرية وضمان استمرارها، ولقد تباينت ملامح المستقبل بما يحمله من توقعات واحتمالات بل وشكوك أيضا، حتى شاعت قصص كثيرة حول طرق تحجيم عدد السكان والنزول بهم إلى مليارين على الأكثر، واستند دعاة ذلك الرأى إلى قضايا أخرى ذات صلة فى مقدمتها التغير المناخى والاختلاف الملحوظ فى درجات الحرارة وتراجع حجم اليابسة لصالح بعض المحيطات أحيانًا وعلى حسابها أحيانًا أخرى، بل إن الأخطر من ذلك هو شيوع هاجس بدأ ينتشر فى كثير من الأوساط عن وجود مؤامرة كونية كبرى يقودها عدد من علماء الغرب والشرق، وهى مجموعة تسعى للحد من السكان بطرق جذرية وشاملة، بل إن البعض يدعى أن ظهور فيروس كورونا منذ سنوات كان أحد مظاهر هذا الطرح الجديد، بل ويلقى كثير – ومنهم علماء ثقاة- اللوم على التطعيمات التى شاعت ضد ذلك الفيروس وأسرف الناس فى تعاطيها وبدأ البعض يشعر بردود فعلٍ عكسية لها، خصوصا وأن البشر مغرمون بنظرية المؤامرة لاسيما إذا كان لها خلفية تتردد فى الدول الصناعية والبلدان الزراعية، حيث يشعر الجميع أن من يسعون إلى تخفيض عدد سكان الكوكب إنما هم من ساكنيه أيضا، وظهر كثير من التفسيرات التى ترجح أن المليارات المطلوب الخلاص منها تتركز فى بعض أجناس الجنوب والجماعات البشرية التى لا يتحمس لها الغرب كثيرا بعنصريته الشديدة وكراهيته الموروثة، وفى ظنى أن هذا النمط من التفكير الذى يتحدث عن شرائح تجرى صناعتها على امتداد البشر وتسمح لمن يتحكم فيها بانتهاء الحياة ووضع نهاية فى فترات معينة وفى ظل ظروف محددة، ولا أريد أن أفرط هنا فى التشاؤم أو أمضى موهومًا فى نظرية فناء البشر وفقًا لضرورات الحياة وحاجات العمل، بل إننى أزعم أن جزءًا كبيرًا من هذا الهاجس ينبع من أوهام وإن كانت تعززها بعض الحقائق ويدور حولها كثير من الشائعات فى عصر وسائل التواصل الاجتماعى بما له وما عليه، ويضيف الباحثون إلى ذلك تزايد معدلات الندرة فى الموارد وتزايد طموحات الأفراد فى حياة أفضل إلى جانب شح المياه وتناقص الطاقة واختفاء جزء لا بأس به من مقومات الوفاق البشرى والتعايش المشترك. ويكيل الغرب الاتهامات للصين فى جانب وترد الصين بتفاسير مختلفة فى جانب آخر، متهمة الغرب بأنه هو الذى يروج لهذه النظريات المجهولة ويذكرونه بحرب الجراثيم التى شنها على الهنود الحمر، السكان الأصليين للقارة الأمريكية، عبر المحيط الأطلسى، ولم يبرأ الأمر أيضًا من المقارنة بين تلك الجرائم الكبرى وجريمة أخرى فى الشرق الأوسط مازلنا نعيش أصداء مأساتها ونتأمل النتائج الإجرامية التى صاحبتها وأدت إلى إحساس عميق بمخاطر ذلك التطهير العرقى والعقاب الجماعى والإبادة المروعة والافناء المتعمد لأنواع من الجنس البشرى لصالح أوهام وأحلام ومخططات كاذبة، ولم يقفوا عند هذا الحد بل استدارت فى اتجاه آخر يسعى فى خبث ودهاء إلى إشعال الحروب واستمرار آثارها السلبية على الجنس البشرى حتى يتحقق لهم الهدف الخفى من وراء انتشار تلك الحروب الموضعية والصراعات الإقليمية والتى تنتقص كلها من أعداد البشر خصوصا وأن مدرسة «مالتوس» و«دوركايم» تعتمد إلى حد كبير على إنقاص أعداد المواليد من البداية بدلاً من الخلاص من أعداد كبيرة منها بالأوبئة والأمراض والحروب والنزاعات.
إن ما نسعى إلى تأسيسه من هذه السطور التى تفيض بروح التشاؤم وتستغرق بشدة فيه، إنما هى محاولة نظرية للبحث عن جذور تلك المؤامرة الكونية التى تستهدف أبناء الشعوب الفقيرة والأجناس التى تقع فى نهاية سلم الترقى والتحضر من وجهة نظر العنصرية الغربية، كما أننا ندين شيوع خطاب الكراهية والتركيز على الإسلاموفوبيا، بل والعداء للسامية أيضًا وغيرها من أدوات الصراع الجديد التى يصدرها الغرب لشعوب مقهورة فى أرضها مغلوبة على أمرها، وليس هناك ما يمنع أن ترتفع الشعارات الكاذبة التى تتحدث عن الارتقاء بتلك الشعوب والصعود بالمجتمعات ومحاربة الفقر .. إنها محنة العصر والآلام الجديدة التى نصحو وننام عليها كل يوم فتشيع الشكوك وتنتشر الشائعات ويجرى تسميم العقول وتشويه العلم والعبث بالتكنولوجيا، إنها صيحات العقل فى فترة فارقة من تاريخنا المعاصر الذى يشهد العديد من الاضطرابات والصراعات التى تهدد حياة البشر على كوكب الأرض.