تنطلق الزغاريد فى وداع الشهيد!! ويُعجب لها من لا يطلق الزغاريد سوى تعبيرًا عن الفرحة فى استقبال مولود، أو نجاح فى امتحان، أو فى زفة عروسين، أو عودة بلقب الحاج من الأراضى المقدسة، حيث يعقب الزغرودة ضحكة وضمة ورقصة وتهنئة من أعماق الغبطة وألف مبروك وعقبال عندكم وبالرفاء والبنين والناجح يرفع إيده ودقوا المزاهر وليلة بيضاء ونهار سلطانى وحصوة فى عين العدو ويا أهل البيت تعالوا عريسنا قمر وعروسته بتلالى.. وأيضًا زغرودة الأحزان تسكنها الفرحة، لكنها الفرحة المؤجلة ليوم التلاقى فى جنة الخُلد.. فرحة تزف الشهيد - الذى لا يموت - للعلياء.. فرحة إدراجه لمكانته بجوار عرش الرحمن.. فرحة مؤجلة لموقف واقعى الحزن والفقد والفراق والبتر والرواح والبُعد والاختفاء والخواء وجلمود صخر ووسادة ذكرى بين الضلوع وأرض الدموع والسقوط من علٍ وطاحونة الذكريات وأرجحة المتاهات والوحشة الطاغية لمن قضى ومات وذهب ورحل مسجى غائبا لا يقوم ليسعى، تاركا الأم ثكلى والأب مكلومًا والزوجة أرملة والأبناء يتامى والعواطف سجينة والرثاء متجمدًا والتاريخ الذى لا يفتح دفاتره إلا لاستقبال شهيد جديد، فما باله باستقبال عشرات مئات آلاف فى لحظة فى ساعة فى يوم وابل الويلات.
زغرودة الوداع الملتاعة تخرق الآذان بمثقاب لولبى الآلام، تصعد من الصدر المكلوم فتصيب بنيرانها صميم السويداء.. التجاوب معها يمزج الآلام، يزاوج القهر، يتفاقم مع اللوعة، يؤصل الحدث الجلل، يلاحم ما بين أوجه المسارات، يشنف الآلام لا الآذان.. جلجلة الوداع ظاهرها فرحة عارمة، وباطنها طعنة دامية.. زغرودة مدوية توأم للصرخة المستغيثة كلاهما من غور الأعماق.. زغرودة مغموسة بالدموع، مهترئة بالتنهدات، مغموسة فى بحور الكمد، محبوسة خلف واجهة صمود أسطورى متشبث بأحبال الإيمان والوعد الحق وصدق اليقين، ليوارى جسد الشهيد مضرجًا بدمائه الزكية تبعًا للتقاليد الإسلامية ليبعث من جديد بنياشين وأوسمة دماء الفداء، تطرّز ثوبه كما أنارت قبره وعطرته بريح المسك طوال رقدة رفاته، فروحه الطاهرة قد صعدت إلى خالقها لتحيا مع الأطهار المصطفين «ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللـه أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون»، فإن مقام الشهادة فى سبيل اللـه مقام اصطفاء واجتباء، فالمولى يقول: «وليعلم اللـه الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء»، فالشهادة فى سبيل اللـه منحة ربانية يختص بها من يشاء من عباده، وهبة إلهية يمُن اللـه بها على أحب خلقه إليه بعد النبيين والصديقين كما جاء فى قوله تعالى «ومن يُطع اللـه والرسول فأولئك مع الذين أنعم اللـه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحُسن أولئك رفيقا»، والشهادة الصفقة الرابحة والثمن النفيس لها هو الجنة ليقول المولى عن هذه المنزلة المباركة «إن اللـه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل اللـه فيقتلون ويٌقتلون وعدًا عليه حقا فى التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللـه فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم»، وجنة الشهداء ليست واحدة بل جنان كما روى البخارى عن الرسول صلى اللـه عليه وسلم أن أم الربيع بنت البراء، وهى أم حارثة بن سراقة أتت النبى عليه الصلاة والسلام فقالت: يا نبى اللـه ألا تحدثنى عن حارثة ــ الذى قتل يوم بدر حيث أصابه سهم غَرَب ــ لا يٌعرف من أى جهة رمى به، فإن كان فى الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه فى البكاء؟.. قال الرسول: يا أم حارثة إنها جنان فى الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى»، فما أعظمه من بيع وما أرفعه من ربح، والشهادة فى سبيل اللـه مبناها على الإخلاص وصدق النية مع اللـه، فقد يبلغ المؤمن بإخلاصه وصدقه مع اللـه مرتبة الشهادة حتى وإن مات على فراشه، حيث يقول الرسول صلى اللـه عليه وسلم: «من سأل اللـه تعالى الشهادة بصدق بلغه اللـه منازل الشهداء وإن مات على فراشه»، وما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وماله على الأرض من شىء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة، ومن قول علىّ بن الحسين رضى اللـه عنه أن رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم قال: «ما من قطرة أحب إلى اللـه عز وجل من قطرة دم فى سبيل اللـه».
وتابعتها.. إيناس زوجة ابن الشهيد اسماعيل هنية تتحدث عن حماها وعلى وجهها ظل لبسمة إيمان واطمئنان - نراها بوضوح على وجوه الصمود الفلسطينى - ذاكرة أن عائلة هنية وحدها قد فقدت حتى الآن خمسة وثلاثين شهيدا، وعندما أتت على سرد أماكن إصابتهم تاهت إيناس فى السرد والأماكن، فأرض غزة كلها قد أصبحت مقبرة للشهداء. المولود فيها مشروع شهيد، وطفل الثالثة والخامسة والعاشرة مشروعات للشهادة، وكل امرأة وشاب ومسن كتبت عليهم الشهادة، حتى بلغ شهداء غزة وحدها فى الحرب الأخيرة 39896 شهيدا منهم 16365 طفلا و11012 امرأة و1049 مسن، غير المفقودين من الأطفال والنساء تحت الأنقاض البالغ عددهم 4700 مفقود، وفى الضفة 622 شهيدا، وبلغ عدد شهداء الصحافة 165 شهيدا وقائمة الدماء تطول لتغرق المشهد بلون الاعتداء الممهد للإبادة.. تنعى إيناس حماها الشهيد والد زوجها الشهيد وأطفالها الشهداء الذى نال الشهادة على أرض بعيدة فى طهران فسهام مؤامرات إبليس تعبر الأسطح والأجواء لتخترق الحوائط وتصيب النائم فوق وسادته: «أنعى عمى وحبيبى وأبى وتاج رأسى وقرة عينى ليلتحق بركب المجاهدين والصديقين والميامين» وتكتب الابنة سارة إسماعيل هنية فى تغريدة على أثر استشهاده: «واللـه يابا أنك تعبت. تعبت كثيرا وطويلا.. طلبتها يابا ونلت الشهادة يا حبيبى ويامحلاها موتة يا با. واللـه كنت سند للكل، واللـه كنت الحنون على الكبير قبل الصغير.. كنت حبيب الكل يابا. دماء والدى ستطارد الملاعين إلى يوم الدين.. اللى فكروا إنهم باغتياله حيرتاحوا أبدًا.. دماء والدى الزكية الطاهرة نصر لنا ولعنة ستظل تطاردهم أينما راحوا».. وفى الدوحة يُستقبل الشهيد بالزغاريد.. شريكة العمر والنضال والقضية والآلام وفقد الأنجال والأحفاد تربت على الجثمان، تمسح على النائم دومًا، تشاهده بعين اليأس يقوم ينتفض يمشى يُحادثها ويفتح ذراعيه للقيا الحفيد المتعثر فى خطواته الأولى، خيالها يؤمهم فى الصلاة، يقرظ طهيها، يفتح شباكها، يطلب يدها، يجالسها، يحج معها، تصعد إلى جواره فى المركبة، تنتظره من بعد جمر البعاد خارجا إليها من سجن الصهاينة الأنكاد، تقرأ رسائله على أسماع الأنجال، تدعو له فى الغدو والترحال وقيادة الأبطال، ترقيه من غدر الصهاينة ومتاهات الهدنة ومسئولية الأسرى وجرحى الغارات ووقف المساعدات: «اللـه يرضى عليك يا حبيبى فى الدنيا والآخرة، أنت سندى فى الدنيا والآخرة.. سلم لى يا حبيبى على كل الشهداء فى غزة.. سلم لى على حضرة رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم.. سلم لى على القادة والرجال الأبطال.. سلم لى على الأبناء والأحفاد.. اللـه يحنن عليك يا سندى يا حبيبى».. حبيبها استشهد وهو على قيد الحياة من أبنائه ثلاثة: حازم وأمير ومحمد، ومن الأحفاد أربعة استشهدوا فى قصف إسرائيلى استهدف سيارة يركبونها بمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة فى 10 ابريل الماضى، بينما توفيت حفيدته «ملاك محمد هنية» ابنة الثالثة فى 15 ابريل متأثرة بجراحها من جراء حادث استهداف العائلة الهنية.. ويُسأل الشهيد وقتها عما إذا كان مقتل أبنائه وأحفاده الذين قتلوا فى الهجوم الإسرائيلى سيؤثر على المباحثات فيأتى قوله عن زحم المعاناة: «شعبنا الفلسطينى مصالحه مقدمة على أى شىء وأبناؤنا وأولادنا جزء من هذا الشعب وجزء من هذه المسيرة».
الشهيد اسماعيل هنية الذى سكنته قضية بلاده منذ نعومة أظفاره حتى أنه غنى فى السابعة من عمره للمسجد الأقصى بصوت شجى نجى فى الحفل المدرسى:
«واللـه لن أنسى مسجدنا الأقصى
يا قبة الصخرة تبكى من الحسرة
تقول يا رباه يا واهب الحياة
بعونك اللـهم اكتب لنا النصر
وشجرة الزيتون بغصنه الحنون
يبكى على شهداء أرضنا الحرة
يا لوعة النفس عليك يا قدس
وأنت فى البلوى والعيشة المرة
يا إخوة الإسلام سيروا إلى الأمام
بالعزم والإقدام بصحبة الصفوة»
يُقتل الفلسطينى لكن قضيته ترفض أن تموت، تهرب إسرائيل من ساعة الحقيقة لكنها لا تستطيع إرجاءها إلى الأبد، فبحر الجثث الذى أطلقته فى غزة ضاعف قناعة العالم بضرورة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، فأبدًا لا يموت الجمر حين يرفض الظلم أن يموت، فمنذ النكبة وجمر النزاع الفلسطينى الإسرائيلى مقيم، وأجيال وُلدت فى ظل الاحتلال وتحت أوجاع المخيمات، قتل الآلاف لكن الحلم لا يموت ونجاح اسرائيل فى تدمير غزة لن يعفيها من ساعة الاستحقاقات المؤلمة، أدارت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة سلسلة من الحروب لاغتيال مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة قبل ولادته، أسهمت فى تهميش السلطة وإطلاق المستوطنات لالتهام الأرض الفلسطينية، تصرفت إسرائيل معتبرة أن الدولة الفلسطينية هى أشبه بعبوة ناسفة هائلة ستزرع فى خاصرتها، وواضح أن لا مجال لدور عربى على أرض غزة فى اليوم التالى بعد الحرب ما لم يكن فى سياق قيام الدولة المستقلة.. ويتربصون لصوت الصحافة والإعلام لكن الكلمة أبدًا لا تموت على مدى 50 عامًا من الصراع كان على رأس شهداء الصحافة دستة من الشرفاء كانت هدفًا لطمس الحقائق على لسانهم، ومنع وصول الصورة الكاملة لقمع الاحتلال للفلسطينيين..
على رأس القائمة غسان كنفانى رئيس تحرير جريدة الهدف الذى اغتاله الموساد فى 8 يوليو 1972 فى بيروت، بتفجير سيارته فى منطقة الحازمية، يليه كمال عدوان مسئول المكتب الإعلامى فى منظمة التحرير الفلسطينية الذى اغتيل فى عملية نفذها جهاز المخابرات الاسرائيلية «الموساد» فى شارع فردان بالعاصمة اللبنانية بيروت فى 10 أبريل 1973، وبعدهما ابراهيم مصطفى ناصر مصوّر مؤسسة السينما الفلسطينية الذى استُشهد أثناء توثيقه بالكاميرات للاجتياح الاسرائيلى لجنوب لبنان، إثر إصابته بقذيفة فى منطقة صف الهوى، وترجل جنود الاحتلال وأطلقوا عليه الرصاص مباشرة ليرتقى شهيدا، وماجد محمد عبدالقادر أبوشرار مسئول الاعلام الموحد، الذى اغتاله الموساد فى عام 1981 بتفجير قنبلة وُضعت تحت سريره فى أحد فنادق روما أثناء مشاركته فى فعاليات مؤتمر عالمى للتضامن مع الشعب الفلسطينى، ومحمد عبداللـه عزام الباحث بمركز الأبحاث الفلسطينية الذى استُشهد فى انفجار سيارة مفخخة عام 1983، و«حنا عيد مقبل» رئيس تحرير جريدة فلسطين الذى اغتيل عام 1984 على يد الموساد بإطلاق النار عليه من مسدس كاتم للصوت، وحسن عبدالحليم الفقيه الصحفى بجرائد الفجر والبيادر والقدس الذى اغتالته المخابرات الاسرائيلية بعد اختطافه لمدة 3 شهور عام 1985 لكشفه عن أسماء لسماسرة بيع أراض للإسرائيليين فى القدس ورام اللـه، وناجى سليم حسين العلى رئيس رابطة الكاريكاتيريين العرب الذى اغتاله عملاء الموساد عام 1987 بإطلاق الرصاص عليه من مسافة قصيرة، ومحمد عبدالكريم البيشاوى الذى استُشهد فى قصف صاروخى عام 2001 أثناء تواجده فى المركز الفلسطينى للإعلام، وخليل محمد خليل الزين مدير المكتب الصحفى للرئيس ياسر عرفات فى تونس الذى اُغتيل ب12 رصاصة من أسلحة كاتمة للصوت عند مغادرته مكتبه فى حى الصبرة، وشادى حمدى عياد الذى استُشهد إثر إصابته فى قصف مدفعى لمنزله بحى الزيتون عام 2014، وحامد عبداللـه شهاب الذى استُشهد فى قصف طائرات الاحتلال لسيارة المؤسسة التى كان واضحًا عليها إشارة الصحافة فى شارع الرمال وسط غزة عام 2014..
ويتجاوز عدد شهداء الصحافة 160 شهيدًا منذ بدء الحرب فى 7 أكتوبر وحتى يونيو 2024 وتظل القائمة تطول حتى يومنا هذا إلى جانب المصابين والمفقودين والمعتقلين لتبرز أسماء لشهيدات بذلن أرواحهن فداءً للوطن المغتصب والمهنة المقدسة، على رأس القائمة مراسلة الجزيرة على مدى 25 عاما «شيرين أبوعاقلة» التى استشهدت على يد جيش الاحتلال الإسرائيلى أثناء تغطيتها للاجتياح الاسرائيلى لمخيم جنين صباح الأربعاء 11 مايو 2022، وكان من أبرز ما حققته بالصوت والصورة انتفاضة الاقصى عام 2000، وهناك أكثر من 16 مذيعة ومراسلة وصحفية فلسطينية قتلتهن اسرائيل غالبيتهن كن مستهدفات بالذات منهن شيماء الجزار الصحفية فى شبكة ماجدات رفح التى استُشهدت فى 3 ديسمبر 2023 مع طفلتها ووالديها وأشقائها واثنى عشر فردا من عائلتها بقصف الطيران الحربى الاسرائيلى شرقى مدينة رفح جنوبى قطاع غزة لمنزل عائلتها بما سمى باسم مجزرة عائلة الجزار، وحنان عياد الصحفية التى استُشهدت برفقة زوجها وطفلها إثر غارة اسرائيلية استهدفت منزلها فى حى الدرج بمدينة غزة فى 13 ديسمبر 2023، وآمنة حميد الكاتبة والشاعرة الصحفية التى استُشهدت وطفليها فى غارة جوية اسرائيلية لمنزل عائلتها فى مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة فى 24 ابريل 2024، وأحلام عزات العجلة مراسلة مجلة السعادة الأسرية استُشهدت على يد الجيش الاسرائيلى مع دينا عبداللـه البطيحى الصحفية فى مؤسسة الثريا للإعلام فى 9 يونيو 2024.. ويبدو أن العنف الاسرائيلى قد أصابه الملل من طول القصف هنا وهناك بجميع أنواع إمدادات السلاح الأمريكى، فأخذ البعض منهم يفكر ويفكر فى خطط عاجلة تنهى على ما تبقى من شعب غزة حتى ولو كان عدد الناجين مليونى فرد، فاقترح «ميكى زوهار» وزير الثقافة الاسرائيلى فى الأسبوع الماضى تجويعهم إلى حد الموت، وكان هناك الوزير «عميحاى إلياهو» صاحب الاقتراح باستخدام السلاح النووى للإبادة الكاملة، وأخيرا قامت «تسيبى نافون» مديرة مكتب سارة نيتانياهو زوجة بنيامين نيتانياهو باقتراح على الفيس بوك لإنهاء المشكلة: «أريد أن يتركز جميع الفلسطينيين فى مكان واحد حتى تتمكن أمة إسرائيل بأكملها من رؤيتهم بوضوح لنبدأ فى إذلالهم ونقتطع من أجسامهم قطعة لحم من وراء قطعة ببطء وحذر حتى لا تسبب الوفاة، ثم نقوم بقطع أعضائهم وقليها فى الزيت ونُجبرهم على أكلها، بينما نحتفظ باللسان إلى نهاية التعذيب حتى يسعدنا صراخهم، والآذان حتى يسمعون هم صراخهم، والأعين حتى يروننا مبتسمين»..الخ!!
ولا أظنها أبدًا زغرودة ملتاعة تلك التى تراود لسانى وقصبتى الهوائية عند معرفتى بأن اسرائيل قد خسرت منذ السابع من أكتوبر حتى الآن أكثر من 2500 قتيل، فضلا وخيرا وكرامة عن أسر أكثر من 250 جنديا وضابطا اسرائيليا، من بينهم رتب عليا، كما قامت ولأول مرة بتهجير نصف مليون إسرائيلى من المستوطنين حول قطاع غزة سواء فى الشمال أو الجنوب، هذا إلى جانب أحدث الأخبار التى تستدعى أيضا الزغاريد غير الملتاعة ومنها إعلان وزارة الأمن الإسرائيلية الأربعاء الماضى أن عدد الجنود الجرحى الذين يتعامل معهم ويعالجهم قسم تأهيل المعاقين بلغ 10056 جنديا أصيبوا منذ بداية الحرب على غزة، هذا إلى جانب استمرار الاعتناء ب62 ألف جندى معاق أصيبوا فى حروب سابقة، ويفصح قسم تأهيل الجنود المعاقين بأنه يتم استيعاب أكثر من ألف جريح جديد شهريا من جراء الحرب المستمرة، إضافة إلى حوالى 530 جريحا فى حروب سابقة.. ويعانى 35% من الجنود المعاقين خلال الحرب الحالية على غزة من أزمة نفسية للإصابات الشديدة التى نالت أطرافهم، و68% من الجنود المعاقين فى الحرب الحالية هم جنود فى قوات الاحتياط، و51% منهم فى سن (18 - 30)، و31% فى سن (30 - 40 عاما)، والإصابة الأساسية لدى 2800 من الجنود المعاقين هى أزمة نفسية، بينها الهلع والكآبة وصعوبة التأقلم والتواصل مع الآخرين والرعشة المستمرة، ويواجه أكثر من 3700 جندى معاق إصابات فى الأطراف، و192 أصيبوا فى الرأس، و168 أصيبوا فى العيون و690 مصابا بالعمود الفقرى، و50 جنديا بترت أطرافا فى أجسادهم، ويتوقع قسم تأهيل الجنود المعاقين أن يعتنى القسم بحلول العام 2030 بنحو 100 ألف جندى معاق، وأن يواجه 50% منهم أزمات نفسية.. واللـهم لا شماتة لكنها واقفة فى زورى وعلى طرف لسانى وليست من النوع الملتاع.
الزغرودة الملتاعة تذكرنى بتغريدة البجعة، فكلاهما مشهد وداع مغموس بقمم الألم.. الأولى تصاحب الشهيد لمثواه الأخير إلى جنة الخلد، بينما الثانية تنعى نفسها بنفسها عندما تستشعر البجعة بقُرب منيتها فتذهب إلى الشاطئ لتطلِّق تغريدتها الأخيرة المتحضرة التى تُخرِّج نغمة أجمل ما تكون النغمات وقعًا على آذان البشر.. إنها تئن أنين الحى على حافة النهاية التى ينتقل بها من الحياة إلى الموت، ولكن البشر لا يأبهون بآلام البجعة فأنينها فى آذانهم له وقع حلاوة التغاريد، ولأنها التغريدة الأخيرة من بعد حياة حافلة فقد اقتبسها الكاتب الفيلسوف الدكتور زكى نجيب محمود لتكون عنوانا لحصاد السنين التى بلغت الـ88 لكتابه الأخير «تغريدة البجع» والغريب أننى عندما جلست إليه فى حضرة زوجته وتلميذته الدكتورة منيرة حلمى فى شقتهما بشارع أنس بن مالك المطلة على النيل بكوبرى جامعة القاهرة وذلك فى عام 1991 حدثنى فى بداية الحوار عن بداية وعيه بالقضية الفلسطينية وذلك عندما شعر فى بداية الثلاثينيات برغبة شديدة فى السفر إلى القدس الشريف فى فلسطين مسرى رسول اللـه «سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنُريه من آياتنا إنه هو السميع البصير».. المسجد وباحته التى شاهدت بالأمس اقتحام كل من وزير الأمن الاسرائيلى إيتمار بن غفير ووزير الاسكان يتسحاق جولدكنويف على رأس أعضاء من الكنيست والمتطرفين الاسرائيليين رافعين العلم الاسرائيلى فى ذكرى خراب الهيكل وهى مناسبة دينية يهودية يستغلها المتشددون للاستفزاز وانتهاك المقدسات، فغادر الدكتور زكى قطار القاهرة ساعة الغروب ووصل إلى محطة اللد عند مطلع الفجر ليستقل قطارا ثانيا إلى القدس ولم يكن فى محطة هذا القطار إلا رجل واحد يرتدى الزى الكاكى الشبيه بأزياء الجنود، وكان بلا حقائب يمشى على رصيف المحطة جيئة وذهابًا، ويعترضه الدكتور بسؤال ظن منه أن الصلة الكلامية فى مثل هذا الظرف أمر واجب حتى ولو لم يكن الكلام يحمل معنى مفيدًا، فحياه أولا: صباح الخير (قالها بالانجليزية) فأجابه الرجل بتمتمة لا تتبين فيها الحروف، فعاد وسأله: ما جنسيتك؟ وهنا أجاب الرجل بخشونة تنبئ بشر: أنا يهودى، ومرة أخرى يعود ليسأله: إنى لا أسألك عن ديانتك، بل أسألك عن جنسيتك، فصرخ الرجل فى غيظ ليجيب: نعم جنسيتى هى أنى يهودى، ومرة أخرى عاد ليسأله: إنى لا أسألك عن ديانتك، بل أسألك عن جنسيتك؟ فصرخ الرجل عاليا فى غيظ وأجاب مرة أخرى: نعم جنسيتى هى أنى يهودى.. ومضى يستأنف سيره على الرصيف رايح جاى.. هنا لم يستطع الدكتور زكى نجيب محمود وقتها: فى بداية الثلاثينيات «على طول ما فكر، وهو فى القطار الذاهب إلى القدس، ماذا عناه ذلك الرجل عندما جعل جنسيته ويهوديته مترادفتين؟».
لكنه تجاهل حيرته لعل الأيام تكشف ما يفسر له الغامض، ووصل إلى القدس، وألقى بحقيبته فى أقرب فندق استطاع النزول فيه، وخرج مسرعًا ليجلس فى مقهى مزدحم، ولم تمض دقائق حتى جاءه شاب وسيم حياه صباح الخير وسأله: حضرتك قادم للزيارة؟ فأجابه: نعم قادم توًا من مصر، فاستأذنه للجلوس معه، فأجابه القادم من مصر إن ذلك يجعل فرحتى فرحتين، وكان أول سؤال ألقاه الفلسطينى على أخيه المصرى: إيه أخبار القضية فى مصر؟ فرد المصرى: أية قضية تعنى؟ فعاد الفلسطينى إلى السؤال وعلى وجهه علامات دهشة وعجب» القضية يا أخى؟ إنها القضية العربية.. وعرف صاحبنا بالقضية، قضية العرب أهل فلسطين مع الأقلية اليهودية التى يشد أزرها المندوب البريطانى.. وهنا فقط أدرك ما قصد الرجل «الكاكى» الذى التقاه فى محطة اللد حين قال إن جنسيته هى نفسها يهوديته..
وأعجب لقول الدكتور بأن غالبية القرارات الدولية التى يدور حولها الخلاف عشرات السنين مصدرها له دلالة ثقافية، ويعطينى المثقف التليد مثالا فى القرار 242 الذى قبله العرب واسرائيل معًا حين سئل ذات مرة واضعه «لكارنجتون» كيف توصلت إلى هذا القرار؟ أجاب بأنه استدعى زعماء العرب وزعماء اسرائيل، فطلب العرب إعادة الأرض لأصحابها، وطلب الإسرائيليون الأمن والأمان، لكن المفاجأة بأن صدر القرار فى لغته الانجليزية التى لا تسمح بوضع أداة للتعريف قبل الكلمة المطلوبة «الأرض»، وبالتالى يكون معناها هذه الأرض، وأى أرض، فاستمرت الفجوة بين العرب واسرائيل على الدوام بدعوى اسرائيل بأن القرار غير ملزم وغير محدد.. وتتداعى الذكريات فى تغريدة البجعة الأخيرة لأيام الحرب العالمية الثانية عندما كان الدكتور زكى نجيب محمود فى انجلترا فسألته صاحبة البيت الذى يسكن فى إحدى غرفه: ماذا تُوصى إذا آُصبت فى هذه الحرب؟ فقال لها: وصيتى الوحيدة أن أدفن فى أرض مصر.. فسألته باندهاش: أليست الأرض كلها سواء بالنسبة للموتى؟».. قال: لن تدركين أبدا علاقة المصرى بأرضه، ولو قلت هذا الكلام لأى من أبناء وطنى لأدرك جيدًا ما أعنيه وليتكم تعلمون أن المصرى تملكه أرضه أكثر مما يملك هو الأرض.
أتركه.. أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء من كتب مع إطلالة التغريدة الأخيرة عدة كتب دفاعا عن القرآن وعن الرسول صلى اللـه عليه وسلم تضم تفسيرا فلسفيا لا مثيل له لأخطاء المستشرقين حول الإسلام والعرب بمعرفة إيمانية يؤمن بها ويطمئن إليها من يزيل الشوائب عن صدره المتعب بالشكوك.. أتركه لتُبقى الذاكرة قوله حول تراجع العالم الاسلامى بعد أن كنا فى الريادة: «يكون القول تشاؤما لو أننا زعمنا أن طاقة الإبداع فينا قد اقتلعت من نفوسنا اقتلاعا، لكن حقيقة الأمر فينا هى أن تلك الطاقة فى كمون يشبه كمون الحياة فى حبة القمح وفى نواة التمر، حتى إذا ما شاء لها فالق الحب والنوى أن تنزاح عن محابسها أقفالها توقدت الشعلة من جديد، وأول خطوة على الطريق هى أن تُنفخ فينا إرادة أن نحيا، ثم يضاف إلى ذلك إرادة أن تكون حياتنا حياة السادة لا حياة العبيد: سيادة فى العلم، سيادة فى الفكر، سيادة فى الأدب والفن، سيادة بالإباء والكبرياء».
وإذا ما كانت بجعة زكى نجيب محمود تغرّد تغريدتها الأخيرة قبل رحيلها، فالطير يرقص مذبوحًا من الألم، لتستحوذ صورته الراقصة مع واقعه المرير - تمامًا كالزغرودة الملتاعة - على خيال الشاعر «المتنبى» ليعكسها أبياتا طروبا تروى مأساته الدامعة:
لا تحسبوا رقصى بينكم طربا
فالطير يرقص مذبوحا من الألم
يا ويح أهلى أُبلى بين أعينهم
على الفراش ولا يدرون ما دائى
تموت النفوس بأوصابها
ولم تدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجه تشتكى
أذاها إلى غير أحبابها
.................
سيل الكآبة موصول بأوردتى
وأنهر الحزن تجرى فى شرايينى
قد صرت كتلة آلام يمزقنى
فى مصلب الجرح بين الحين والحين
لا تحسبوا هذا الشعر يفهمنى
بل صار ينقل رسمًا دون تلوين
فهل تجمع فى روحى وفى جسدى
آلام عيسى ويعقوب وذا النون؟
.................
فلو كان سهمًا واحدا لاتقيته
ولكنه سهم وثان وثالث
.................
رمانى الدهر بالأرزاء حتى
فؤادى فى غشاء من نبال
فكنت إذا أصابتنى سهام
تكسرت النصال على النصال