أيام قليلة تفصل الفرنسيين عن الدور الأول للانتخابات المبكرة للجمعية الوطنية (البرلمان)، التى دعا لها الرئيس الفرنسى بعد هزيمة حزبه أمام القوميين اليمينيين فى انتخابات البرلمان الأوروبى، فى وقت سابق من هذا الشهر.
وقد اعتبر ماكرون أن حل البرلمان وإجراء انتخابات قبل موعدها بثلاث سنوات هو الحل الأكثر مسئولية. وهى تعتبر محطة للخروج من المنطقة الضبابية ووضع الفرنسيين امام مسئولية اختيارهم، وأيضا وضع اليمين المتطرف، فى حال فوزه، تحت مجهر ومحاسبة الناخبين.
سيختار نحو 50 مليون ناخب فرنسى أعضاء الجمعية الوطنية البالغ عددهم 577 عضوا. بغض النظر عن الحزب الفائز، أعلن ماكرون أنه لن يستقيل من منصبه الرئاسي. وتشير استطلاعات الرأى إلى حصول حزب التجمع الوطنى من أقصى اليمين نحو 30% من الأصوات، بعدما أعلن زعيم حزب الجمهوريين من يمين الوسط التحالف مع أقصى اليمين. وقوى اليسار التى أعلنت تحالفها ضمن الجبهة الشعبية الجديدة، فقد منحتها استطلاعات الرأى 25% من الأصوات. بينما لم يحصل التحالف الرئاسى الذى يجمع الأحزاب المساندة لماكرون سوى 20%، وفق ذات الاستطلاعات.
يبدو من هذه النتائج ان الانتخابات المقبلة ستشكل رهانا محفوفا بالمخاطر، اذ من الصعب قلب موازين القوى فى غضون ثلاثة أسابيع من مرور الانتخابات الاوروبية. واذا ما صحت الاستطلاعات، فستكون هذه الاستحقاقات بمثابة زلزال قد يعيد تشكيل المشهد السياسى الفرنسى بتداعيات اقتصادية وسياسية على المستويين الوطنى والاوروبي. إذا خسر حزب ماكرون، وفاز حزب التجمع الوطنى أو الجبهة الشعبية الجديدة، فإن هذا سيسمح بدخول فرنسا إلى نحو ثلاث سنوات من التعايش، أو تقاسم السلطة. هذا يعنى أن يرأس زعيم حزب ماكرون الدولة ويدير حزب آخر الحكومة.
التخوف من سيناريو وصول اليمين المتطرف إلى السلطة وحصول زعيمه، جوردان بارديلا، على رئاسة الحكومة، أخرج، السبت الماضى، عشرات الآلاف من الفرنسيين فى مظاهرات دعت إليها نقابات عمالية وجماعات طلابية وأخرى لحقوق الانسان، كمحاولة للتأثير على أصوات الفرنسيين ومنع تشكيل حكومة معادية للأجانب بشكل صارخ، ومعادية للإسلام، واستبدادية وغير ليبرالية.
فوز اليمين المتطرف قد يكون له تداعيات عميقة على الاقتصاد الفرنسي. على المدى القصير، يمكن أن تؤدى التدابير الحمائية وزيادة الدعم للاقتصاد المحلى إلى استقرار بعض القطاعات، لكن على المدى الطويل، قد يكون للصراعات التجارية، وانخفاض القدرة التنافسية الدولية، وعدم الاستقرار المالى داخل الاتحاد الأوروبى، آثار سلبية كبيرة.
قاريا، هناك شبه اقتناع بأن الحكومة الفرنسية التى سيقودها جوردان بارديلا، ستكون بمثابة الشرارة الاولى لحالة من عدم اليقين بشأن المستقبل القريب للاتحاد الأوروبي. فحزب التجمع الوطنى، الذى يتزعمه، سبق وطرح فكرة مغادرة الاتحاد الأوروبى ومنطقة اليورو وإعادة استخدام الفرنك الفرنسي. صحيح ان هذا الطرح كان ضعيفا قبل سنوات ولم يجد من يدعمه، إلا أن وصول الحزب لرئاسة الحكومة قد يؤدى إلى توترات داخل الاتحاد الاوروبى ويهدد استقرار اليورو.
كما ان حزب اليمين المتطرف، المتهم بقربه من روسيا، غير راض بشأن المساعدات لأوكرانيا ويعارض أى انضمام لكييف إلى الاتحاد الأوروبى أو ناتو. صحيح، أيضا، تخلى الحزب عن العديد من مواقفه المتطرفة بشأن ترك القيادة المتكاملة لحلف شمال الأطلسى وتعزيز العلاقات مع روسيا، لكن مع وصوله الى الحكم، اذا لم ينحز كليا لموسكو، فعلى الأقل سيسعى لجمع روسيا وأوكرانيا فى محادثات السلام وعدم تزويد كييف بوسائل الحرب الدائمة، خاصة فى ظل الازمة الاقتصادية وتساؤل الفرنسيين لماذا يستمرون فى تخصيص المليارات لكييف، فى حين لا شىء يتغير على ارض المعركة، فقط يتم إهدار أموال دافعى الضرائب.
هذه التغيرات السياسية والاقتصادية المحتملة، تجعل فرنسا الديمقراطية متخوفة من وصول اليمين المتطرف لسدة الحكم، وتأمل ألا يتكرر معها ما يحدث فى المجر، التى يحكمها اليمين المتطرف، من مساس خطير بالمؤسسات والتعددية. كما انها تخشى سيناريوهات الولايات المتحدة فى عهد دونالد ترامب، وخسارة البرازيل النفوذ الدولى أثناء ولاية جايير بولسونارو، أو وضع المملكة المتحدة بعد بريكست. كما انها تخشى ان تهتز صورة فرنسا القوية، وان يسمح فوز اليمين المتطرف بالتدخل فى سياسات فرنسا الوطنية، او يعبدالطريق للعدوان على أوروبا، بما فى ذلك عسكريا!
فرنسا مفتوحة على كل السيناريوهات. ماكرون يراهن على وعى اختيار الفرنسيين، والفرنسيون فقدوا الثقة فى كل الأحزاب التقليدية. والفاصل هو صندوق الاقتراع الذى سيكشف مستقبل فرنسا والاتحاد الأوروبى.