مازلت معنيًا بالمقارنة بين الندم الإيجابى والندم السلبى باعتبارهما وجهين لعملة واحدة هى الأسف على فعل أو قول أقدم عليه صاحبه ثم تراجع عنه بعد فوات الأوان، وعندما يستعرض المرء مسيرة حياته أو حياة المقربين منه سوف يكتشف بسهولة الأخطاء التى وقعوا فيها والانتكاسات التى تعرضوا لها بسبب قرارات خاطئة اتخذوها عندما كان لديهم الخيار بين أن يفعلوا شيئًا بذاته أولا يفعلوه، ولقد آمنت مؤخرًا أن الندم الإيجابى أفضل عشرات المرات من الندم السلبى، وأعنى بالندم الإيجابى الإقدام على عمل لا تعرف نتائجه، ولكنك تجد نفسك مدفوعًا إليه بشعورٍ خفى قد لا يستند بالضرورة إلى العقل الكامل والمنطق السليم، وليس صحيحًا ولا دقيقًا أن القرار الرشيد هو الأفضل، ولكنه بالضرورة هو الأسلم، فما أكثر ما رأينا فى حياة قادة الرأى وأصحاب الفكر حين اقتحموا الأسوار العالية من أجل أهداف استقرت فى أعماقهم رغم صعوبتها وضبابية نتائجها، بل إننى أعرف نماذج لأشخاصٍ اختاروا أصعب المسالك التى كانت محفوفة بالمهالك وكانت النتيجة لصالحهم رغم أنهم كانوا يعومون ضد التيار ويغردون خارج السرب، ولكن لأنهم كانوا أصحاب قرار مضوا وراء الحكمة الشائعة التى تقول (فاز بالسعادة الجسور)، وقد عرفت أيضًا نماذج باهتة لأشخاصٍ اختاروا أن يستندوا على الحائط من خلفهم وأن ينظروا حالمين أمامهم لا يقدمون على فعل شىء، لأنهم يريدون ضمانات كاملة للنجاح وهو أمر يصعب تحقيقه.
ورحم الله زميلى الراحل السفير سيد أبوزيد مساعد وزير الخارجية الأسبق الذى كان يتندر على هذا النمط من التعامل فى الحياة بقوله فى ستينيات القرن الماضى (إن شخصًا ما يريد أن يكافح وفى جيبه شهادة ضمان من جنرال موتورز لضمان تحقيق الهدف قبل البدء فى السعى نحوه!) وهى دعابة لها مكانها الصحيح خصوصًا لدى أولئك الذين يتوهمون أن طلب العلا يتحقق بالصمت والارتكان للهدوء الكامل والتوقف عن اتخاذ أى قرار، وهم الذين يلعقون بعد ذلك أصابع الندم حين يكتشفون أن سلبيتهم كانت سببًا فى عزلتهم وهى التى أدت بهم إلى ذلك الندم السلبى الذى يؤرق حياتهم طيلة سنوات المستقبل.
فالندم الإيجابى هو أن يندم المرء على شيء فعله ويصبح فى رصيده أنه أقدم على ذلك الفعل بما له وما عليه بدلاً من الندم السلبى الذى يجعل صاحبه خاسرًا مرتين الأولى لعدم فعله لما كان يريد، والثانية أنه أصبح يجتر آلام الفشل على ضياع الفرصة فيما فاته، والذى يبحث فى تاريخ العظماء والمكتشفين والعلماء يدرك أن رؤيتهم البعيدة قد جعلتهم يركبون الصعب ويرتادون المجهول مدركين أن الندم الإيجابى فى أسوأ حالاته أفضل من الندم السلبى فى أحسن نتائجه، إذ أنك حين تندم على أمر فعلته فذلك أفضل عشرات المرات من ندمٍ على شىءٍ لم تفعله، لأن ذلك يعنى بالضرورة ضياع الفرصة والعزوف عن المغامرة، ولست أعنى بذلك أبدًا أن يتناطح المرء مع الحائط أو أن يلقى بنفسه إلى التهلكة، ولكننى أضيف مباشرة أن فعل الشيء يعنى تحقيق الجزء الأكبر من مواجهة المجهول إذ يرى المرء فى حياته نتائج ما فعل من تجاوب مع تحديات ومواجهة العقبات ساعيًا نحو تحقيق الأمل وإثبات الذات، ولقد تابعت أبناء جيلى وقد جلسنا جميعًا لسنوات فى مقاعد الدراسة وكيف تقدم بعضهم وتأخر الآخرون ربما دون ارتباطٍ بالتفوق العلمى أو النجاح الدراسى، حتى حقق بعضهم آمالاً واسعة وأحلامًا عريضة بسبب خصوبة الخيال وبعد النظرة والقدرة الواسعة على استشراف المستقبل دون وجلٍ أو خوف، فالأيدى المرتعشة لا تصنع مستقبلاً ولا تحقق نتائج بل تظل مكبلة غير قادرة على الانطلاق خوفًا من الوقوع فى الخطأ أو نتيجة عدم الثقة فى رشد القرار.
ولقد تفوق كثير من زملائى فى ميادين الحياة العامة والنشاط الاقتصادى والتألق الفكرى نتيجة إقدامهم الشجاع على ارتياد الطرق المقبولة وكان رصيدهم فى اتخاذ القرار هو مجموعة من الحسابات الذكية والتجارب الناجحة لهم ولغيرهم دون تردد سلبى وسيطرة لفكرٍ عدمى، وقديمًا قالوا (إن النجاح هو مجموعة من الأخطاء الصحيحة، أما الفشل فهو مجموعة من الأضواء البراقة) والعبرة دائمًا تأتى لمن يملك شجاعة اتخاذ القرار ولا يخشى الندم الإيجابى ما دام بعيدًا عن معاناة الندم السلبى، فليحلم الشباب وليفتح طاقات خياله الواسع وليقتحم الأبواب المغلقة، وسيكتشف ذات يوم أنه قد اختار الطريق الصحيح ومضى على الدرب الذى انتهى به إلى التميز عن سواه والتفوق على غيره وتحقيق الذات بشرفٍ وكرامة.