تزامنا مع إبلاغ حركة حماس الوسطاء القطريين والمصريين والولايات المتحدة موافقتها على اقتراحهم بشأن اتفاق وقف إطلاق النار وصفقة التبادل، وما تلا ذلك من ترحاب دولى وإقليمى، جاء الرد الإسرائيلى سريعا، من خلال بدء اجتياح رفح، فى ذات الليلة. وقد اعتبرت تل أبيب ان الشروط الواردة فى الاتفاق المقترح لا تلبى مطالبها، ومضت قدما فى شن عمليتها من أجل زيادة الضغوط على حركة حماس لإطلاق سراح الرهائن، وتحقيق الأهداف الأخرى للحرب.
على الرغم من الضغوط التى مارستها الإدارة الأمريكية على الجانب الإسرائيلى، فإن الموقف الأمريكى المتناقض القاضى بعدم ممانعة الاجتياح البرى لرفح إذا ما تم بطريقة تختلف عن تلك التى تم اتباعها فى المراحل الأولى من الحرب، هو ما استغلته إسرائيل عندما صورت المشهد وكأنها تبذل ما بوسعها من خلال ترحيل المدنيين، لتمضى بعدها فى تنفيذ عملية عسكرية أقل كثافة لكن لتحقيق نفس النتيجة. وقد قامت فعلا القوات الإسرائيلية بالتضييق على الاهالى المتواجدين بجنوب القطاع بهدف دفعهم للتوجه إلى خان يونس، بحيث تدعى أن من تبقى فى رفح هم من مقاتلى حماس.
استهدف الجيش الإسرائيلى أهدافا يقول إنها تابعة لحركة حماس، بما فى ذلك مبان عسكرية وبنى تحتية تحت الأرض وبنى تحتية أخرى تعمل منها حماس فى منطقة رفح. وبعد ليلة من القصف العنيف، أعلن الجيش الإسرائيلى أنه سيطر على الجانب الفلسطينى من معبر رفح الفاصل بين قطاع غزة ومصر.
من الناحية الإنسانية، اجتياح مدينة، حيث يحتمى نحو 1.5 مليون نازح، هو إبادة جماعية جديدة تضاف الى سجل جرائم إسرائيل. أما الحديث عن ترحيل السكان من شرق رفح فهذا سيناريو سيزيد فقط من معاناة المدنيين، خاصة انه من المستحيل تنفيذ عملية إخلاء بهذا الحجم بشكل آمن وسليم. ومع عدم وجود أى خطة فعلية، لدى قوات الاحتلال، لإجلاء المدنيين والتعامل مع الوضع الإنسانى، فهذا يعنى أننا مقبلون على كارثة إنسانية ستضع العالم امام خيارات صعبة سيكون لها تأثير سلبى بعيد المدى. أضف الى ذلك، محاصرة غزة من كل الجهات بعد سيطرة الاحتلال على معبر رفح يعنى توقف دخول المساعدات وإمدادات الوقود وحركة المسافرين، وتوقف الاستجابة الإنسانية الحرجة فى جميع أنحاء القطاع. أما الحديث عن الممر البحرى الذى تقيمه الولايات المتحدة فهو يبقى دون جدوى بالنظر الى صغر حجمه، وعدم توافر المستودعات لتخزين المساعدات التى يتم إدخالها للقطاع من خلاله. وقد كان من الأجدر إنشاء مثل هذا الممر فى شمال وادى غزة، بسبب تدهور الوضع الإنسانى هناك وتعرض الأهالى للمجاعة.
من الناحية السياسية، اجتياح رفح يكشف عن كم التناقضات بالمشهد السياسى الإسرائيلى بخصوص أولويات الحرب وأهدافها ومدى استعداد إسرائيل لإنهائها او الرغبة فى استمرارها. بين تصاعد احتجاجات عائلات الأسرى، وتجدد أصوات عائلات الجنود القتلى فى معارك إسرائيل التى تطالب الحكومة بالاستمرار بالحرب وعدم الرضوخ لحماس، اختارت حكومة نيتانياهو التنصل من خيار التهدئة، وما يعكسه ذلك من التضحية بالأسرى، فى سبيل تجنب تفككها وربما محاكمة نيتانياهو على جرائم الفساد والحرب.
من خلال الاجتياح البرى لرفح، تكون إسرائيل قد طوقت غزة بشكل كامل، وهى تسعى، ليس فقط الى الضغط على حماس لتقديم تنازلات أكثر خلال المباحثات الجارية فى القاهرة، بل ربما الهدف الاساسى هو خلق أوضاع فى رفح تدفع سكانها للهروب إلى مصر مع عدم السماح لهم بالعودة فى المستقبل. واستكمالا لمسلسل التناقضات، من المرجح ان تستمر هذه العملية بشكل تدريجى بالتوازى مع استمرار المفاوضات فى القاهرة بمشاركة إسرائيلية. وفى اللحظة التى تقررها إسرائيل، وتعتبرها خطوة إيجابية فى المفاوضات وصفقة تبادل الاسرى والرهائن، يمكن ان يبدأ الحديث عن وقف دائم لإطلاق النار.
الى ذلك الوقت، اذا لم يكن العالم قد اقتنع بعد بأن عملية 7 أكتوبر لم تكن سوى ذريعة من أجل تحقيق مخططات إسرائيل التى لا تستهدف مقاتلى حماس بقدر ما تستهدف الحياة العامة فى غزة، والمجتمع ومؤسساته من خلال استهداف المستشفيات والمحاكم وإغلاق المعابر التى تعتبر القلب النابض للقطاع، فعليه، على الأقل، ان يضغط جديا الآن من أجل إعادة فتح معبر رفح وتشغيل ميناء أشدود وفتح باقى المعابر البرية، من أجل إدخال المساعدات الإنسانية الى منطقة تريد إسرائيل ان تجعل منها اكبر مقبرة جماعية على الإطلاق!.