روجت لشعار «المرأة نصف المجتمع» ولاذت بالرسم من خسائرها..
سلام على إنجى أفلاطون فى مئوية ميلادها
لقّبُوها بالفنانة المناضلة، لخوضها تجارب سياسية كثيرة، وعدة اعتقالات! لكنها ترى الأمر أقدم من ذلك بكثير، وتعيد بدايات «تمردها على الظلم» إلى بواكير عمرها، فى سنّ الثانية عشرة، فكانت ترفض بوضوح كل ما يثير استياءها.
وفى مئوية ميلادها ـ إذ ولدت فى 16 أبريل عام 1924ـ يليق استعادة بعض سيرتها الحافلة، وبعض أمارات تمرد واختلاف واحدة من أبرز الفنانات التشكيليات فى التاريخ المصرى. وليكن تقصى تلك السيرة بالاطلاع على إشارات التمرد الأولى، كما وردت فى مذكراتها حول أسباب استيائها من الالتحاق بمدرسة «القلب المقدس».
إشارات مبكرة للتمرد:
تكتب إنجى أفلاطون عن معركتها الأولى هذه، فتقول: « كانت الأغلبية بين تلميذات المدرسة من المسيحيات وأكثرهن من الأسر القبطية الكبيرة، وأيضا من الطبقة المتوسطة ذات التطلعات الحادة. كن يتفاخرن بالحديث بالفرنسية، ويتبارين فى ازدراء كل ما هو مصرى أو عربي، أو يمت لذلك بأى صلة من قريب أو بعيد..».
وبالفعل، وفور إدراك الأم لأسباب استياء إنجي، ألحقتها بمدرسة «الليسيه» الفرنسية، التى اختلف فيها أفق التعليم والتفكير والفن. وتعقب إنجى فى وصف هذه المرحلة، فتقول: « أدركت لأول مرة، ولم أكن قد تجاوزت الثانية عشرة ربيعًا، أن التمرد حالة ضرورية للتصدى فيما بعد للظلم الواقع عليّ».
لم تكن فنانة تشكيلية معروفة وحسب. إنّما واحدة من نساء مصر العزيزات، ومناضلة ارتبطت حياتها بالحركة الوطنية، وبالمخالفة لنشأتها البرجوازية، انحازت للعدالة الاجتماعية، ودافعت بقوة عن حقوق الطلبة، والمرأة بلا كلل، وأبرزت فئات الشعب الكادحة فى أعمالها، وتلونت أغلب لوحاتها بوجوه الفلاحين والعمال والصيادين، وأطلت المرأة الفلاحة من براويزها. وربما جاء هذا انعكاسا لعزلتها الطويلة عن عموم البسطاء، ضمن مجتمع مخملي، ونشأة مُترفة، وتعليم أجنبى. فعاشت إلى السابعة عشرة لا تنطق بغير الفرنسية، ولا تعرف شيئا عن لغة شعبها، فصحى كانت أو عامية!
تقول إنجي: «حاولت والدتى إقناعى بالسفر إلى فرنسا لاستكمال دراساتى الفنية. وكذلك حاول كل أفراد العائلة، لكنى رفضت، وكان قرارى بالرفض منسجما مع ما أستعد له من حياة جديدة، يقتسمها النشاط السياسى والاجتماعي، إن لم يشغلها لأبعد مدى، لم يكن مقبولا ولا معقولا أن أترك مصر وأذهب لعدة سنوات إلى بلاد الخواجات، وأنا أفكر بكل وجدانى فى عملية تمصير طويلة وقاسية للنفس، لى شخصيا، أنا التى أتكلم الفرنسية، وضاعت من عمرى ثمانية عشرة سنة فى هذا المجتمع المغلّف بالسلوفان، حتى لغتى القومية لا أملكها. أى بؤس يحسّه الإنسان المعقود اللسان! حتى السابعة عشرة كانت لغتى هى الفرنسية.»
كانت تلك أكثر لحظة فارقة فى حياتها. أدّت لانخراطها فى الحركة الوطنية، واحترافها الرسم، واقتادتها السياسة إلى الفن. فقد تيسّر لها ذات مرة قضاء فترة بين الفلاحات، حين تخفّت بإحدى القرى قبل حبسة 1959، فارتدت ثيابهن البسيطة التى رأت فيها جمالا مغايرا، وجلست بينهن مبهورة بسِحر الخبير، وأُغرمت بعاداتهن، وأسرتها طيبتهن، فملأت لوحاتها بهن فى عزّ ازدهارها الفنِّيّ.
مكونات للرحلة الطويلة:
والد إنجى أفلاطون هو حسن محمد أفلاطون، درس العلوم فى سويسرا وإنجلترا، وعاد ليعمل أستاذا بكلية طب قصر العيني، ثم انتقل إلى كلية العلوم عند نشأتها، وعمل بقسم الحشرات، وتولى عمادتها لاحقا لسنوات عديدة.
وأمها صالحة أفلاطون، ابنة عم والدها، تزوجته فى الرابعة عشرة، وانفصلا وهى فى التاسعة عشرة من عمرها، فى العام الذى ولدت فيه إنجى. وانقطعت لتربية ابنتيها ولم تتزوج. وكانت أول امرأة مصرية تفتتح دارا للأزياء، واشتهرت باسم «دار صالحة»، وحققت نجاحا واسعا رغم احتكار الأجانب لصناعة الأزياء.
وجدها لأبيها، حسن الكاشف، الذى اشتهر بين زملائه باسم «أفلاطون» لكثرة أسئلته ومناقشاته الفلسفية، فأطلقه عليه محمد على باشا، فأصبح اسمه الرسمى. وعيّنه الخديو إسماعيل ناظرًا للجهادية والبحرية فى أول نظارة لولى عهده، الخديو توفيق، فى مارس 1879، لكن النظارة لم تستمر إلا أياما قليلة.
كان نقلها إلى «الليسيه»، أولى خطواتها لتنسم الحرية. فشغفتها أفكار الفلاسفة الفرنسيين، ومفكرى الثورة، وأفادتها النقاشات التى كانت تُرتِّبها المدرسة. وأعجبها تنوع مستويات البنات الاجتماعية، ودفعتها للتساؤل حول شتّى الأوضاع الظالمة؟
لازمتها هواية الرسم من طفولتها، واهتمت العائلة بموهبتها، ووفرت مدرسا لتعليمها الرسم فلم يعجبها وتمردت عليه بدوره. ومن حظها أن البديل كان الفنان، كامل التلمساني، الذى فتح لها آفاق الرسم، وإتاحة الاختلاط بالمثقفين، فتعرفت على الفكر الاشتراكي، وأدبياته. فوجدت له صدى فى روحها المتمردة على طبقتها. وعملت فى هذه الأثناء مدرسة للرسم لأطفال «الليسيه»، لتستقل ماديا.
الشغف السريالي:
انتهجت السريالية، وصوّرت كل ما يخطر على بالها من أحلام وكوابيس كما يتبدى بلوحاتها «الوحش الطائر» 1941، و«الحديقة السوداء» 1942، و«انتقام شجرة» 1943. وتزامنت مرحلتها الفنية تلك مع اقترابها من «جماعة الفن والحرية».
فى نهاية عام 1945، سافرت مع صفية فاضل وسعاد زهير إلى باريس للاشتراك فى المؤتمر التأسيسى للاتحاد العالمى للنساء. وساهمت بتأسيس «الجمعية النسائية الوطنية المؤقتة» . وأصبحت عضو «الاتحاد النسائى الدولى» ثم شاركت فى «المؤتمر النسائى» بباريس عام 1947. وبعد عودتها قدمت كتابها الأول «80 مليون امرأة معنا» للتعريف بدور المرأة فى مقاومة الاستعمار.
ثم جاء ارتباطها بوكيل النيابة، محمد محمود أبو العلا، عام 1950، بما كانت تتمناه من استقرار، فقدّمت سلسلة لوحات تتمتع بحسّ إنسانى واجتماعى ميّز مسيرتها.
وعلى نحو مفاجئ تُوفيّ والدها وزوجها فى عام واحد، 1956، فاندفعت إنجى أفلاطون فى العمل الوطنى والإبداع الفنّي، وتنقّلت بين مراسم مختلفة أهمها مرسم الفنانة الكبيرة «مارجو فيون». واشتركت مع يوسف حلمى وسعد كامل وكامل البندارى وإبراهيم رشاد وسيزا نبراوى وعزيز فهمى وخالد محمد فى تأسيس «حركة السلام المصرية» عام 1950. وكتبت عمودا بصحيفة «المصرى» الوفدية بعنوان «المرأة نصف المجتمع»، وربما كانت أول من استخدم هذا الشعار.
الرسم وراء القضبان:
فى مارس 1959، اعتقلت ضمن 25 مناضلة، ووصفت إنجى ذلك فى مذكراتها بأنها كانت لتصفية الحركة الشيوعية والتقدمية والوطنية. وقضت فيها أربعة أعوام ونصف، وأفرج عنهم فى يوليو ١٩٦٣. وبعد خروجها لاذت بالرسم، وبات نشاطها الرئيسى إلى وقت وفاتها فى ١٩٨٩.
فى «سجن النساء» بالقناطر، اقتنصت إنجى حق ممارسة الرسم، فأمكنها تجسيد تفاصيل السجن من الداخل، ووجوه المسجونات، وأشجار خارج السور، وأوجه الحياة هناك. وأظهرته مكانا مكدسا بالمحبوسات، يشعر المتلقى بالضجّة الخارجة منهن دون أن يسمعها.
ويذكر أن الفنانة محسنة توفيق كانت فى السابعة عشرة من عمرها، وشاركتها هذه «الحبسة»، وقضت معها عاما ونصفا، وكانت مع إنجى أفلاطون بالزنزانة ذاتها، وقامتا معا بإضراب طلبا للإفراج عنهما.
عاشت إنجى أفلاطون ستة وعشرين عاما بعد خروجها من السجن، وأوقفت حياتها على الفن، ولم يشغلها استبعادها من التكريم وجوائز الدولة، ولا تجاهل مقتنياتها. والمدقق بمجموع أعمالها فى متحف الفن الحديث سيجدها أقل بكثير من أعمال فنان شاب. منحتها الحكومة الفرنسية أعلى وسام لديها، «وسام الفارس»، وأقامت 25 معرضا خاصا فى الداخل والخارج.
أبرزت لوحاتها تأثرا بالأسلوب الواقعى الاجتماعى للفنان المكسيكى «ديفيد ألفارو سيكيروس، رسام الجداريات، الذى حرصت على لقائه حين زار مصر.
مؤلفاتها أربعة: هى «80 مليون امرأة معنا» 1947، تقديم دكتور طه حسين. و»نحن النساء المصريات»، 1949، تقديم عبد الرحمن الرافعى. و«السلام والجلاء»، 1951، بجانب «مذكرات إنجى أفلاطون».
أوصت قبل وفاتها فى 17 أبريل 1989، بإهداء كل أعمالها وكتبها وأدواتها، ومقتنياتها الشخصية إلى مصر، بينها 890 عملا فنيا، و 36 لوحة مقتنيات خاصة لفنانين آخرين، و17 صندوق أدوات رسم، ومجموعة كتب نادرة. وكان هدفها كله إقامة متحف تعرض فيه تلك الأعمال للشعب الذى أحبته وعبّرت عنه.
لكن لا أحد يعرف ماذا تم من وصيتها!!.
رحم الله الفنانة إنجى أفلاطون بقدر إخلاصها لوطنها وشعبها الذى أحبّته!