غالبًا ما كانت نظرية التطور مرادفة لاسم تشارلز داروين، الذى وضع بعمله الرائد فى القرن التاسع عشر الأساس لعلم الأحياء الحديث. ومع ذلك، فإن ما يتم التغاضى عنه غالبًا هو المساهمة الكبيرة لعلماء مسلمى ما قبل الداروينية، لقد قدم علماء المسلمين ما قبل الداروينية، ومنهم الجاحظ وابن سينا والفارابى وابن باجة وابن طفيل وابن رشد، مواد كافية لداروين لنظريته فى التطور وأعطوها لغة علمية. وأطلق عليها جون ويليام دريبر، أحد معاصرى داروين، اسم «النظرية المحمدية للتطور. كما ان داروين نفسه كان يعرف اللغة العربية وكان لديه إمكانية الوصول المباشر إلى الأدب العربي. حيث بدأ دراسة الثقافة الإسلامية فى كلية اللاهوت بجامعة كامبريدج. ومن ثم يمكن القول إنه استمد المادة الخام لنظريته من الأدب الشرقى!.
وهنا أنقل للقارئ الكريم لحظة صدق ساقتنى اليها ورقة بعنوان: آراء علماء المسلمين ما قبل الداروينية فى التطور, بقلم محمد سلطان شاه الذى تحدث باستفاضة عما قدمه العلماء المسلمون من معلومات وافكار فى نظرية التطور.
كان أبو عثمان عمرو بن بحر، المعروف بالجاحظ، كاتبًا وشاعرًا وعالم أحياء مشهورًا، كتب أكثر من 200 عمل، بما فى ذلك موسوعته كتاب الحيوان. كانت أفكاره حول الصراع من أجل الوجود والتكيف وعلم نفس الحيوان جزءًا من نظرية داروين فى الانتقاء الطبيعى. وانتقلت أفكاره إلى أوروبا من خلال ترجمات إلى اللغات الأوروبية، مثل كتاب الدميرى «حياة الحيوان» وكتاب ابن طفيل «حى بن يقظان». وقد وجد علم الحيوان وعلم الأحياء الإسلامى دخولاً مبكرًا إلى الجامعات الأوروبية، مما أسهم فى تطورها. قدم الجاحظ مفهوم السلاسل الغذائية واقترح نظامًا لتطور الحيوان يتضمن الانتقاء الطبيعى، وتحديد البيئة، وربما نقل السمات المكتسبة. كما اقترح أن المادة غير الحية تتحول إلى مستوى النبات، وأن الحيوانات تتطور من النباتات، وأن الإنسان هو مرحلة تطورية من الحيوان. كما احتوى كتاب الحيوان للجاحظ على بذور العديد من النظريات اللاحقة فى علم الأحياء وعلم الحيوان: التطور والتكيف وعلم نفس الحيوان. وشكلت هذه الأفكار مدرسة عربية واسعة ضمن مدارس التطور الإسلامية الوسطى. وهنا، يمكن الافتراض أن العلماء المسلمين قد ناقشوا مفهوم التطور قبل داروين وقدموا مدخلات كافية لداروين لتقديم نظريته باللغة العلمية.فقبل ظهور مدرسة الفلسفة الطبيعية فى ألمانيا، كان الجاحظ وغيره من علماء المسلمين معروفين لدى الأوروبيين من خلال ترجمة أعمالهم إلى اللغات الأوروبية. فعلى سبيل المثال، تُرجم كتاب الدميرى حياة الحيوانات إلى اللاتينية على يد إبراهام إسكلينسيس ونشر فى باريس عام 1977. كما تم نشر كتاب ابن طفيل حى بن يقظان الذى يحتوى على فلسفة التطور باللاتينية فى أكسفورد عام 1671. وتمت دراسة كتاب النويرى حياة الحيوان بواسطة دربيلو، أما كتاب زكريا القزويني, عجائب المخلوقات فى علم الكونولوجيا فتمت ترجمته إلى الفرنسية ونشره دو جينز عام 1789.
ويُعتبر كتاب تشارلز داروين الصادر عام 1859 بعنوان أصل الأنواع أساس النظرية العلمية للتطور عن طريق الانتقاء الطبيعى، والذى يشير فيه إلى أن كل أشكال الحياة نشأت مع مرور الوقت من أسلاف مشتركين. وعلى الرغم من أفكار الجاحظ الرائدة، فإن الجدل ينشأ حول ما إذا كان قد اكتشف نظرية التطور قبل داروين....! وبينما لاحظ الجاحظ التكيف البيئى فى الأنواع، فإن عمله افتقر إلى النطاق الشامل والمؤثر لنظرية داروين. فمنشورات داروين فى القرن التاسع عشر معترف بها عالميًا باعتبارها حجر الزاوية فى علم الأحياء التطورى الحديث. فى حين اقترح الجاحظ بعض الأفكار التطورية، فمن الواضح أن رؤية الجاحظ للتطور البيولوجى ظاهرة فى كتابه كتاب الحيوان، الذى يحتوى على بذور العديد من النظريات التطورية اللاحقة. كما حاول تصنيف الحيوانات فى سلسلة خطية، تتراوح من الأبسط إلى الأكثر تعقيدًا. كما قام بترتيبها فى مجموعات ذات تشابهات ملحوظة، ثم قسمها إلى مجموعات فرعية لتتبع الوحدة النهائية فى النوع. كما اكتشف وأدرك تأثير العوامل البيئية على حياة الحيوان.
لقد امتدت أفكار الجاحظ إلى ما بعد عصره، فأثرت على العلماء المسلمين والأوروبيين، بما فى ذلك إخوان الصفا، وابن مسكويه، والبيرونى، وابن طفيل. وبينما كانت نظريته تحتوى على عناصر دينية، فإن النظريات التطورية الحديثة التى طورها جان بابتيست لامارك وألفريد راسل والاس وآخرون كانت أكثر مادية. واجه داروين نفسه الثقافة الإسلامية من خلال ترجمات علماء مثل صامويل لي. وفى جوهر الأمر، يمكن القول إن نظرية الجاحظ فى الصراع من أجل الوجود هى شريعة إلهية، مفادها أن الله يرزق بعض الأجساد طعاماً من موت أجساد أخرى. كما تأكل الحيوانات الصغيرة الأصغر منها، فى حين لا تستطيع جميع الحيوانات الكبيرة أن تأكل الكبيرة منها. وهكذا، يمكن القول إن العلماء والفلاسفة المسلمين الأوائل الذين وضعوا نظريات حول التطور وانتقال الأنواع كان لهم تأثير على تشارلز داروين، أول عالم اقترح نظرية التطور. فطوال العصور الوسطى، تم تدريس هذه المفاهيم على نطاق واسع فى المدارس الإسلامية إلى جانب النظرية المحمدية للتطور التى كتب عنها العالم وزميل تشارلز داروين جون ويليام دريبر فى كتابه الصادر عام 1874 بعنوان: تاريخ الصراع بين الدين والعلم. كما اطلع إيراسموس داروين، جد تشارلز داروين، على النظرية من المفكرين المسلمين قبله، حيث قام بجمع البيانات لمصلحة فرضية التطور وكان مطلعا على كتابات المفكرين والعلماء المسلمين.
> أستاذ بكلية العلوم
جامعة القاهرة