ظهر تعبير الترانسفير فى الأدبيات السياسية للدلالة على السياسات التى تهدف إلى نقل السكان الخاضعين للاحتلال أو السيطرة الفعلية من جانب دولة أخرى وتهجيرهم من مكان لآخر فى داخل نفس البلد أو خارجه. واستُخدم التعبير فى حالة الدول التى نشأت عن طريق الهجرة كالولايات المتحدة، حيث قام المستوطنون الأوائل بإجبار السكان الأصليين للبلاد على مغادرة المناطق التى استوطنوها وتجميعهم فى معازل. كما استُخدم للإشارة إلى حالة النظام العنصرى فى جنوب إفريقيا، الذى قام أيضا بإجبار كثير من أهالى البلاد السود على الرحيل من أراضيهم وتجميعهم فى عدد من البانتستونات أو المعازل.واتصالا بذلك، يمكن القول إن مفاهيم الترانسفير والتهجير القصرى والترحيل بالقوة،هى من الأركان الأساسية التى استند إليها الفكر الصهيونى والممارسات الإسرائيلية.
بدأ الفكر الصهيونى بإنكار وجود الفلسطينيين أصلا، فكتب الصحفى النمساوى تيودور هيرتزل مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية عام 1897 فى كتابه الدولة اليهودية، عن شعب بلا أرض لأرض بلا شعب, أى أن هدف المُنظمة هو تسكين يهود العالم فى أرض فلسطين الخاوية من أى شعب.
كان هرتزل يعرف أن هذا الشعار كاذب وغير حقيقي، وأن أرض فلسطين ليست خاوية كما زعُم وإنما يسكنها شعب آخر. فسجل بتاريخ 12 يونيو 1895 فى يومياته التى ترجمتها هيلدا شعبان صايغ الى اللغة العربية، أننا سنسعى لتشجيع السكان المعدمين على عبور الحدود بأن نجد لهم أعمالاً فى البلاد التى يمرّون بها، مع الامتناع التام عن تشغيلهم فى بلدنا.
وسايره فى ذلك صديقه الكاتب الإنجليزى إسرائيل زانجويل الذى زار فلسطين عام 1897، وعرف أنها ليست خالية من السكان، واعترف بذلك فى خطاب له عام 1905 قائلًا" الكثافة السكانية فى ولاية القدس تبلغ ضعفى نظيرتها فى الولايات المتحدة، إذ تبلغ نسبة الأنفس فيها اثنتين وخمسين فى الميل المربع، ولا يكاد اليهود يشكلون ربع هذا العدد؛ لذلك لا بد من أن نعد أنفسنا لإخراج القبائل (العربية) المتملكة بقوة السيف....
ينظر الفكر الصهيونى إلى الفلسطينيين كغرباء عن هذه الأرض، وأن أرض فلسطين حق خالص لليهود دون غيرهم حسب اعتقادهم. وكان ترويج الحركة الصهيونية لأفكارها فى أوروبا يقوم على أن اليهود سوف يقومون بتعمير فلسطين الخاوية من السكان، وحتى الذين كانوا يعرفون الحقيقة وأن هناك سكانا فلسطينيين يعيشون على هذه الأرض من آلاف السنين، فإن ذلك لم يؤرقهم كثيرا لاعتقادهم بأن أحوالهم المتخلفة لن تجعلهم يمثلون مشكلة أمام تنفيذ الهدف الصهيوني.
شهدت فلسطين مبكرا ممارسات الترانسفير والتهجير الإجباري. ففى ظل الانتداب البريطاني، قام الصندوق القومى اليهودى بشراء الأراضى من كبار الملاك الغائبين والذين كان من أبرزهم عائلة سرسق البيروتية التى امتلكت حوالى 400 ألف دونم فى فلسطين. وبمقتضى لائحة هذا الصندوق فإن هذه الأراضى المُشتراة تصبح أرضا يهودية ولا يجوز لغير اليهودى زراعتها أو العمل فيها.
ولم يقتصر الأمر على استخدام الضغوط الاقتصادية لترحيل الفلسطينيين من قراهم، بل امتد إلى استخدام وسائل القوة والعنف.فبعد صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية مع تدويل الأماكن المُقدسة فى نوفمبر1947، سارعت التنظيمات العسكرية الصهيونية كالهاجاناه والإرجونوشتيرن بعمليات إرهابية فى المناطق الريفية التى كانت مخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية لترويع سكانها، وإجبارهم على المغادرة. كان من أشهر تلك العمليات ما حدث فى قرى دير ياسين وأبو شوشة والطنطورة عام 1948.
كانت تلك العمليات جزءا من خطة شاملة وضعتها الهاجاناه عرفت باسم دالت أو الخطة د، التى نفذت ابتداء من أبريل1948، وأدت إلى تدمير 531 بلدة وقرية، وإخلاء الأحياء السكنية فى المُدن، بهدف السيطرة على أكبر مساحة من الأراضى الفلسطينية التى كانت مُخصصة لإقامة الدولة العربية، وإيجاد أمر واقع جديد. وهو ما تحقق، فبينما كانت مساحة الدولة اليهودية حسب قرار التقسيم 54% من أرض فلسطين، فإنه مع نهاية حرب 1948 سيطرت إسرائيل على78% من مساحتها، وأجبرت 800 ألف فلسطينى على مغادرة ديارهم.
استمرت إسرائيل فى ممارسة نفس السياسات فى الأراضى التى احتلتها بعد حرب 1967، فقامت بشكل منظم بمصادرة الأراضى فى الضفة الغربية، وإعلان بعض المناطق كمناطق عسكرية وترحيل سكانها عنها، والتضييق على سكان مدينة القدس وتقديم الحوافز لهم للهجرة وبدأ حياة جديدة فى دول أخرى مثل أمريكا وكندا وأستراليا، والتشكيك فى سلامة عقود التمليك للعائلات الفلسطينية فى المنازل التى تقطنها من عشرات السنين كما حدث فى حى الشيخ جراح، و عدم إعطاء تصاريح البناء فى القرى لمواجهة الزيادة السكانية الطبيعية، وهدم أى منازل يتم إقامتها بدون تصريح.
من مظاهر هذه السياسة أيضا، التوسع فى بناء مستوطنات فى مناطق استراتيجية، وربطها بشبكة من الطرق تصلها بأراضى إسرائيل، وتصميم مسار الجدار العازل بما يقسم بعض القرى الفلسطينية فيصبح جزء منها فى فلسطين والآخر فى إسرائيل، أو بفصل بيوت القرية عن الأراضى الزراعية التى يمتلكها سكانها فيتعذر عليهم زراعتها.
ترافق مع ذلك تصريحات قادة اليمين الإسرائيلى حول ترحيل الفلسطينيين من أراضيهم، بحيث تصبح إسرائيل دولة يهودية بحق، كما أوضح قانون يهودية الدولة. وفى هذا السياق، تبدو دلالة الأفكار والدعوات الراهنة بشأن تهجير فلسطينيى غزة إلى سيناء، وهو موضوع قديم جديد. أرجو أن أتناوله فى مقال الأسبوع القادم إن شاء الله.